الدولة في مصر والعراق ..  عبقرية مكان أم عبقرية انسان  / د. مزهر الخفاجي

الدولة في مصر والعراق .. عبقرية مكان أم عبقرية انسان / د. مزهر الخفاجي

 

أ.د مزهر الخفاجي

لقد تاثر الانسان مصريا كان ام عراقياً مثل بقية ابناء الحضارات الأخرى بالعواملالجغرافية ، وقـد انعكست خواص هذا التأثير على نوعية استجابته الحضارات وطبيعةعلاقته مع الآخر ، ولقد وجـدنا ان مناخ مصر الجيد وتربتها الخصبة ، وفيضان نيلهاالمعروف والمسيطر عليـه ، وعزلتهـا الجغرافيـة المنيعة ، قد ساهمت في توفير حمايةطبيعية لحضارة وشعب مصر من الغزوات القادمة على مصرفي حين ان ظاهرةملوحة تربة العراق الطينية ادى الى محاصرة الانسان ونتقاله من مراكز حضـاريةمتعددة وذلك تبعا للظروف الجغرافية المحيطة به ، وخير مثال على ذلك انتقاله من جنوبالعراق فـي ((اور ولكش واريدو والوركاء )) الى مناطق الشمال في اشور ونمورد .. كماكان الفيضان نهريـة غيـر المسيطر عليهما وغير المنتظمين في مواعيدهما ولانفتاحاراضي هذا البلد بحدود طويلة مـع اراضـي امم اخرى قد سهل غزو الاقوام الأخرىالمنبهرة بحضارته والطامعة في خيراته ، يضاف لهـا هـامش المغامرة من ملوكه للسيطرةعلى العالم في تحقيق احلامهم قد كبل حضاراته بمشروع العداوة الـدائمي كل هذهالمظاهر الحضارية القت بظلالها على اداء كل من هاتين الشخصـيتين واحـدثت نوعـا مـنالتوازن النفسي في مصر المغلف بالقلق نسبيا عما كان عليه الأمر عند العراقيين والذيشهد نوعا مـن الاضطراب في المحيط البيئي واضفى على روحيهما خضوعا وخوفامستمرا مـن اخطـار الطبيعـة ونذرها المشؤوم وطبع شخصيتها بالخوف من المجهولفتوسل ، لمنهما بقوى الطبيعـة وادمـن علـى عبادتها مثل ( رياح و شمس و قمر و نهر ونجوم و ارض ) هادفاً من خضوعه وتقديمه انواعـا مـن الطقوس الدينية على درءوترويض اخطارها المتربصة به ولقد ارتبطت كل من الشخصية العراقية والمصرية ، عبرمنظومة من الخصائص الفكريـة والتـي طبعت ذهنية كل من هاتين الشخصيتين بعلاقاتبالماحول والتي افرزت فيما بعد عقيدة دينيـة شـكلت نسقاً فكرياً هو اسناءاً شرعياًللشخصيتين ، وقد وجدنا ان هذا الدين قد اتفق فـي كـثيـر مـن تفاصـيـل منظوماتهالاسطورية ، فالخلق لديه كان نقطة البدء فيه الماء ، والصراع كان جوهر هذا الخلـق وهـوتوكيد لفعل الخير والشر الذي يؤطر صراع الانسان الازلي عبر التاريخ وان منظومةالالهة التي عبدت عند كل من العراقيين والمصريين عبر هرمها الثلاثي شهدت نوعـا مـنالاسـتقرار والثبـات عنـد المصريين في ثالوث ( رع ، اتو ، ايزيس ) في حين نجده قدتناسل وتغير اسماء عند العـراقيين مثـل ( انو ، انكي ، انليل ) سرعان ما احتل ( مردوخ ) مكان الصدارة عند البابليين و ( اشور ) عنـد الاشـوريين على الرغم من عدم فقدان الالهةالسابقين لمكانتهم . في الوقت الذي كانت عقائد ما بعد الموت مشتركة مع طبيعة ومزاج كلمن الشخصيتين . ووجـدنا فيها شيء من الخيال الخصب في فكر الشخصية المصرية ،فهم يعتقدون من ان جسم الانسان مدفون في الارض وان الروح تحلق كالطير براسبشري وان قرين الانسان ( الكا ) هو كائن روحي مستقل يعـيش داخل الانسان ويندر اننجد الانسان بدون ( اكا ) واما العراقي فقد ذهب الى نفس الشيء تبـدأ مـن ان جسده بعدالموت الى الارض ، اما روحه فتعرج الى السماء رغم ايمانه بحياة اخرى او الخلود . 

لذلك سعى المصري وتقديراً منه للبيت الثاني للميت ( القبر ) الى المبالغة بعملية الرفعةوالتي كانـت عند ملوك المصريين تصل الى حد نقل وتحنيط كل ممتلكات الميـت وحاجاتـهوبـالغوا فـي تشـييد اهراماتهم وجباناتهم . اما عقيدة الخلود فيبدو ان وضوحها عندالعراقيين ووضوحها عند المصـريين اكدتـه كثيـراً مـن النصوص الاسطورية وهي عديدة . فعملية الخلود مقرونة عندهم بعبور المصري الصراط او الطريـق والذي يؤدي به الىالذهاب الى النعيم او جنة او زيريس والتي عندها شجرة الحياة الثانية .. لكنها عنـدالعراقيين لم تكن واضحة ، وايقن العراقي القديم ان الخلود هو من نصيب الالهة فقط ،فهو كثيرا ما يردد قول كلكامش : ” كل واشرب وامرح ، غداً نموتوقد اقلق الموت كلاالشخصيتين وقد اقتنعا بالقول : ان الموت قاسي لا يرحم اما عقائد الخصب في فكرالشخصيتين فقد وجدناها عملية حيوية لاستمرار الحياة وقد كانت الفكـرة التي تدورعليها اسطورتي ( انانا وديموزي ) العراقية و ( ايزيريس وايـزيس ) المصـرية ، انمـاتعنـي الانبعاث ويعني ولادة الحياة الجديدة وربما هي التي اشاعت فيما بعد عمليةالزواج باكثر مـن واحـدة ، وأن اختلاف اغلب الباحثين حول ظاهرة البغاء المقدس عندالمجتمعين ، لكن هذا لا يمنـع مـن تأكيـد عناصر الاختلاف في الحضارتين في موضوعةالزواج ، فقد عرف المصريون الزواج من الاخت فيما لم يحبذها العراقيون ، وقد فضلالعراقيون الزواج بـاكثر مـن واحـدة ( المحظيـات ) ولـم يمارسـها المصريون ، وربما هذهالعملية جعلت المرأة المصرية تحتل مركزاً مرموقا في الحيـاة السياسـية فـي مصر خلالعهود سلالالتها العديدة في حين شهد دورها شيئاً من الضمور والضعف . ولقد وجدنا انالخصائص الجمعية المشتركة والتي جمعت بين كل من الشخصيتين وهـي ( ثمانيـة ) خصائص :

۱اكدت من اشتراك كل من الشخصيتين بطابع التدين ولا نبالغ حينما نقـول ان كـل مـنالمجامعين قد صنعا العقل الديني لعدد كبير من الحضاراتوكانت تعبر عنه ردة فعلكل مـن هاتين الشخصيتين ازاء الاشياء والظواهر الطبيعية ، وقد هدف دينهما الى : أالايمان بوجود اله خالق او مسؤول أو منظم لهذا الكون

بإشاعة روح الفضيلة

جوتوسلهما عبر طقوس دينية للوقاية من اخطار الطبيعة .

داو الفوز بالحياة الاخرى وقد شحذ مخيال الانسان سواءاً كان مصرياً ام عراقيـاًلتحديـد ملامحها .  

۲وقد اشترك كل من المجتمعين في تفضيلهما للحكمة وضرورة تمكن الملـك او الحـاكم اوالمرء من ناصيتها كرست لديها قناعة بضرورة الايمان بالعدل الالهي وان السعادة هـينصـيب الانسان الحكيم والمؤمن وقد كرستها كثيرا من مقولاتهم والتي كانت تدعو الىاستخدام العقل فهـا

هو ( احيقار ) يقول للعراقيين ( ( خير للرجل ان يعثر في قلبه من ان يعثـر فـي لسـانه ) ) وهـاهو المصري ( أني ) يقول ( ( يا بني ليكن لك في الحياة مبدأ صالحاً ) ) .

 

٣ولقد رسمت لنا كثير من الملاحم والاساطير نصوصا تمجد البطل والبطولـة وترسـم لنـاسيماء هذا البطل ، لقد وجدنا ان مسار البطولة لا يقف عند حدود القوة بل يتجاوزها عـنحـدود الحكمة والاتزان والعقل والبحث عما يسعد الناس وان ما يميز الابطال العراقيينامثال كلكـامش ، وانكيدو و وزیو سررا و واتونوبشتم و ادابا ) كونهم ينطلقون منالداخل ( من العراق ) الى خارجـة اما الابطال المصريين مثل ( اوزیریس او حورس اوسنوحي او اخناتون ) فـانهم ينطلقـون مـن الخارج الى الداخل ( من خارج مصر الىداخلها ) ، وقد كرست بطولتهم معاني البسـالة والبطولـة والالتزام والاقدام والقدرة علىمقاتلة الاعداء .

٤ان التزام واشتراك كل من الشخصيتين بالاخلاق لاعتقادهما من ان الاخلاق مـا هـي الاضمانة لوجود مستقر وهي مدعاة للعيش الهانئ ولرضى الرب ولابعاد الاخطار المحدقةبهمـاكونهما كانا ينشدان الى ضرورة ان يعم الخير والفضيلة والعدل على صعيدالحياة وهي لن تتحقق بلا مجتمع متسلح بقيم واخلاق .

٥ولقد اهتم المجتمعان بالنظام على الرغم من اننا وجـدنـا غيـاب التشـريعات والقـوانينالمصرية المكتوبة ، لكن نجح كل من المجتمعين في الحفاظ على تقاليدها السياسـيةوالاقتصـادية والاجتماعية عبر منظومة من التشريعات والقوانين الناجحة والتي ساهمتفي ضبط ادارة المجتمع والحفاظ على قيمة الانسانية 

٦ولقد ساهمت هذه القوانين بالحفاظ على ملكية الافراد والمجتمع بشقيها ( الماديوالبشري ) وان رغبة التملك هذه ربما نظمت علاقات طبقات المجتمع غنيها وفقيرهاسيدها وعبدها ، واوجدت علائق ساهمت في تراكم حضاري وسهلت من عملية تصاعدهوأن اختلاف وتعـدد الاقـوام فـي الحضارتين قد اوجد شيئا من التسامح بين طبقاتمجتمعاته على الرغم من الشـدة التـي طبعـت علاقة العبيد واسيادهم في مصر ومرونتهافي المجتمع العراقي ولم يمنع هذا من قيام الكثير مـن حركات التمرد . 

٧وقد قدس العراقيون والمصريون ( الاسم ) واعتبر من الاشياء المهمة في حياة النـاسوان موضوعه الاسم مقدسة كون الله هو الذي يختار الاسم ذا طبيعة ذهنية كونه يشـيرالـى طبيعـة الشيء وما هيته وهي عملية تحدد لنا خواصه غير المفهومة ، وقد اعتقدوابعـد ذلـك انـه هـديـة الانسان لان الانسان يفني واسمائهم تبقى .

۸ولقد وجدنا على الرغم التنوع البشري والحضاري والزماني الا اننا وجدنا حضارتينكان ابرز ما يميزهما جنوحهما لتقديم هوية حضارته وثقافة موحدة سواء في العراق اوفي مصـر .. على الرغم ان لك حضارة لها ما يميزهخا تاريخيا وسياسيا الا ان الخواصالعامة لكل من هـاتين الحضارتين كانت واحدة موحدة . 

 

* وقد ترشحت عن الخصائص الفردية للشخصيتين انماطاً من السلوك والانفصالالسـلوكي ، وقد زودتنا البني النصية بمجموعة من الخصائص كانت تعبر عن رغبة كلمن الشخصيتين فـي تجنب فعل الخطيئة لان تدبير الخلق والذي كان من شأن الالهةكانت تحتاج الى شيء من الطاعة واتباعاً من المعبود والذي عرف مقدار الضرر الذيسيلحقه اذا ما اغضب الاله . فهو الذي كان يطالب الهته ( بان تمحي كل ذنوبه ) لانهيعتقد ان ( خطاياه كثيرة ومعاصيه اكثـر ) وكان الالتزام الاخلاق ، وجب عليه ان يسلكسبيل الخضوع للاله ، فهو لا يشكل ولا يحـاجج ولا يسأله اذا ما حل به بلاء ) لان انتهاكالفرد ( مصريا ام عراقيا ) لحدود المقدس امر لا يغتفر وهـو مدعاة لحديث البلاء .

* * وكان ارتكاب الخطايا او احساس العراقي بمصيره المحتوم ( الموت ) قد اوجد خوفـاوقلقـاً ذا مستويين اولهما خوف وقلق خارجي ( من الاله ، الملك ، الطبيعة ) والقوى الثانيةمن القلق الـداخلي والذي كان سببه الرهبة من جلل الموت ، وقد ايقنوا جميعا من ان الكليجب ان يعمـل ولا بـد ان يموت ، وقد وجدنا ان مدخلات الخوف والقلق عند كل منالشخصيتين تتشـابـه مـع مخرجاتـه ، فالخوف والقلق اوجد توحيدا في ذاكرة المصريواشراكا في بعض الاحيان او غموضـا او عـدم وضوح في احيان اخرى عند العراقي .

* * وربما كانت روح الخوف من الخطيئة والرهبة من الموت وعدم معرفته من النتيجـةالطبيعـة لنهاية الموت قد اوجدت دائرة من ( الشك ) كانت قد طبعت اغلب نصوصه وغطتمساحة كبيـرة من تفكير كل من الشخصيتين كما يؤكد هذا . النص ( الانسان ابكم لايعرف شيئا عن البشر وكل الموجودات ) وهو الذي كان يريد : لأنني ولدت ابنا لهذا العالم، الذي لا اعرف اسراره يا لبؤسي * ولكي يلغي لحظة الخوف والقلق من المجهول والتيتركتها اثارها على هويته واثقلت روحـه بكثير من الهموم جنح البشر في الحضارتين الىتفسير احلامه ، فالعراقي كان يعتقد كما هو في هذا النص ( كلما تفعله هناك تجلبهاحلامي ) لذلك تصوروا ان الحلم حقيقة معينة وهي ذات تتصل بعـالم الالهة ، كما انهلجأ للعرافة وكانت وسيلة من وسائله لتنتظم بعض تفاصيل حياته ( البناء ، الحـروب ،التنقل ، الاسفار ) ونفس المعنى كانت تسير عليه علاقة المصري بالاحلام والعرافة والتـييحكمهـا نظام علاقة ( الكائن الضعيف بالمقدس ) ، فكانت احلامهما وفألهما تثيـرثبوتهمـا بمـا يخبـا لهـم المستقبل .

* * ولقد طبعت روح كل من الشخصيتين بهاجس الحزن والذي كان تعبيراً صادقاً عناعترافهمـا بالعدل المفقود والخطر الموعود والرضي الالهي الضائع والنذر التي كثيرا ماتسلب الانسان مـن محيط الذين احبهم واحبوه فهم كثيرا ما يرددون ( احزاني مؤلمة ،وجراحي بليغ … ) ويقول مخاطبـاً روحه ( لا تنوحي .. لا احدا ممن ذهبوا .. يعود ) انالبكائية ( التموزية والايزيروسية ) لم تكن طقسا سيكولوجيا تفرضه اساطير كل منالحضارتين بقدر ما كان جزءا من الحزن الانسـاني الشـفيف الذي كان يضلل روح الانسانوهو نتيجة طبيعية لخوفه المستمر من هاجس ( الموت )

* ان خوف وحزن الانسان من الخطر الذي يهدد حياته ورغبته في ان يستمر اكبر وقتممكن في الحياة ليستمع بمباهجها هو الذي جعله يبتكر آليات ربما تطيل في عمرهوتكشف له ما يخبئـه لـه المجهول ( فلجأ الى السحر ) . ان الطقوس السحرية ونصوصهاوتعاليهما تعد مظهرا انسـانيـا كـان يدفع الانسان ومنذ الازل والى الان الى العمل بههدفه طرد الشر المحيط بالانسان والبـراءة مـن المرض وكف اذى عدو متربص . وكان يهدفايضا الى الحفاظ علـى وجـود الانسـان وامنـه واستمرار حياته . نعم كانت رغبة منه فيالتحايل على المصير المحترم . * ولقد امتازت كل من الشخصيتين ( بذكاء وابدعهماالمدهش ، ولولا الابداع لما تربع كليهما على عرش السبق الحضاري لمدة طويلة ، وكانتخصصه الذكاء هي التي دفعت كل مـن الشخصـيتين على اكتشاف كل ما هو جديدوالمهم ان هذه الدافعية هي التي حفزت مخيلتهـا للفعـل والـذي تجسد في كثير منالمعارف العلمية والفكرية والقانونية والانسانية ، وكان مشروعهما الحضاري هو الذيفتح للبشرية فتحا جديدا لا زالت تدين له بالكثير

* * ان كل هذه المعطيات الحضارية على صعيدها الجمعي والفردي ما كانت لتتم اوتكـون لـولا جذوة الحب المتقده والتي كانت وقود الانسان في كلا الحضارتين ، لقد وجدناان كل مـن الخطايـا الاسطوري والفلسفي والحضاري لم يكن الا تأكيدا لرغبة الانسانالعراقي والمصري في ان يؤسس لنفسه مكانا تشيع منه كل معاني الحب الانساني ،فالرجل كان محباً للالهة مطواعاً لها ومحبا لملكه مخلصاً له ومحباً لزوجته ولاطفالهومحباً لمجتمعه ملتزما باعرافه محباً لحياته متوسلا للبقاء بهـا عبر السحر والفألوتفسير احلام لانه يريد ان يبقي اكبر مدة ممكنة ، وخير ما يؤكد ما ذهبنا اليـهالنصوص العديدة التي تطفح بمعاني الحب وتذوب جوا بالحبيب الذي لولاه لما كان كلهذا العطاء الحضاري الفذ

(Visited 15 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *