الحنين الى العراق
محمد السيد محسن
في تقديري ان العراق في ذهنية وقصيدة مظفر النواب كان وطنا يحاول ان يساهم مع رفاقه الثوار اشاعة العدل والتسامح به لبنائه وفق رؤية سياسية كان يؤمن بها , لكن العراق الذي يبث الحنين في ذاكرة مظفر النواب هو حالة جديدة تتأسس في قصيدة مظفر مع طول رحلة الغربة التي لم تتوقف رغم تغيير النظام الذي عارضه مظفر على مدة اكثر من اربعة عقود, قضى فيها زهرة شبابه , وهو يحاول ان يقنع نفسه ان العراق السياسي من الممكن ان يكون افضل في حال البقاء ثابت المبادئ وان لا يتوانى عن دعم كل جهد من شأنه ان يسهم في تغيير الطبقة السياسية الانقلابية التي احتلت السلطة في العراق منذ عام 1968.
وما هي الا صدمة جديدة يلقاها مظفر بتغيير النظام الشمولي والدكتاتورية العائلية التي اسسها صدام حسين في العراق , استبدلت باحتلال امريكي للعراق , واستدعاء طبقة سياسية جلها من الاسلامويين الذين اضاعوا بوصلة الوطن وفرطوا بسيادته بذريعة انقيادهم الديني الى الفتوى من وراء الحدود , فلم يكونوا جديرين بالحفاظ على وطن ناضل مظفر ورفاقه من اجل ان يعطوه ملامح الحرية والاستقلال والتسامح والعدل والنهوض.
حنين مظفر الى العراق بات يتجلى في قصائد حديثة كثرت فحواها ومقاصدها بعد عام 2003 , بيد ان بعضها كان جليا وواضحا حتى قبل احتلال العراق عام 2003.
في قصيدته باللهجة الدارجة “يجي يوم” افرز مظفر لحنينه أوسع مساحة حيف ودمع لإبتعاده عن الوطن , فجاش به الحنين حتى بدأ يواسي نفسه بأمل وإن كان صغيرا فقال :
يجي يوم .. نلم حزن الأوهام .. وثياب الصبر
ونرد لهلنا
يجي يوم الدرب يمشي بكيفه ياخنا لوطنا
يجي يوم نفرگ الغربة على العالم ملبس
والحزن طاسات حنه
—–
ورغم هذا الامل المفقود الذي يتشبث به مظفر النواب الا ان اليأس ايضا يدب في جوانحه , فيرسم صورة الراحل عبر الموت الى الوطن. حيث يقول:
يجي ذاك اليوم لكن انا خايف
كبل ذاك اليوم تاكلني العقارب
كل بشر يوصل محطته ويحضن اهله
وانا اشوبح من شبابيچ الفراگين الحزينة
انطر احد ما يجيني
مايمر بباله لحظة ويشتريني
السچچ خلصت موصلت
ومشيت وحدي بلايه سچّة
يا وطن يالماله سچّة
يا وطن يالبيك وبلياك اضيع
—–
حتى يصل اخيرا الى حالة الاغتراب , وهي ان يعاني من الغربة رغم انك بين من تحب وبين احضان الوطن , نعم انه الاغتراب الذي بات يحس به مظفر بعد فقده للصحاب وللمكان وللحكايا القديمة التي لم تعد موجودة فلا امه بقيت في العراق ولا اخوته , وبقي ينظر الى الوطن من كوة الغربة والاغتراب فينكص به الأمل اخيرا , وقائلا:
يجي يوم
الناس تنزل عند اهلها
وانا انزل بالوطن كله واضيع
—–
وهذا اقسى ما يمكن ان يصل اليه أمل المغترب , في حال عودته الى الوطن , وابشع أمل من الممكن ان يتحقق محاطا بهواجس الضياع .
وكان مظفر قد افاض بحنينه الى العراق , الوطن , البلد , البيت , الشجيرات , في قصيدته “ثلاث امنيات على بوابة السنة الجديدة ” والتي كتبها عام 1986 , يومها قارن بين وطنه الذي يحن اليه وينظر اليه كذكرى رائعة , وبين اخر ينظر الى العراق بقعة نفط ليس الا :
حينما ترتفع القامات لحنا امميا
ثم لا يأتي العراق
كان قلبي يضطرب
كنت ابكي
كنت استفهم عن لون عريف الحفل
من انشد
من غنى
كنت استفهم حتى عن مذاق الحاضرين
ولقد شط المذاق
كان حفلا امميا
انما قد دعي النفط ولم يدع العراق
—–
في هذه القصيدة يحن مظفر الى تفاصيل من حياته , تجعله يلتصق بالامكنة والشواخص التي تعايش معها في سنين طفولته وصباه , ولخص الامنيات في ثلاث فقط الاولى هي :
أن يسقط القمع إزاء القلب
والمنفى يعودون الى اوطانهم
ثم رجوعي
والثانية :
ان يرجع اللحن عراقيا وإن كان حزين
والامنية الثالثة جسد فيها تفاصيل ربما كانت خاصة واراد الافصاح عنها من وحي ما يشعر به هو وحده فقط حيث قال :
يا الهي
امنية اخرى اذا وافقت
ان تغفر لي امي بعدي
والشجيرات التي لم اسقها منذ سنين
وثيابي فلقد غيرتها امس بثوب دون أزرار حزين
صارت الازرار تخفي
ولذا حذرت منها العاشقين
لا يقاس الحزن بالازرار بل بالكشف
إلا في حساب الخائفين
———
وفي المقطع الاخير , لم يتسن لي ان أسأل مظفر عن فحواه , وهو بلا شك يثير قضية خاصة به , لأن استخدامه بهذا الشكل في القصيدة يدل على معنى مبيت في قلب الشاعر فقط , ولا يمكن ان يكون استخدامه في سياق القصيدة يدل على معنى عام.
وبعد عام 2003 وحين عرف مظفر ان العراق استمر بعدم اهليته كبيئة يعيش فيها , وان الغربة اكلت من جرف عمره , وان مرض الرعاش بات يحاصره , وان العراق “المحتل” والعراق الذي بات ابناؤه يسرقون منه واخرون يتسترون على سرقة الاخرين , فيما الاخر يعاني من السرقة والمتسترين , هذا العراق لم يعد قادرا على اعانته كي يعيش في كنفه , هذا يعني ان حنينه الى العراق سيستمر , وان لا عودة الى الحضن , فكتب يقول:
اين العراق
أبثه قبل الجميع غيابه
ويزورون حضوره
ولهم خرائط غير ما رسمت بقلبي
كل شيء قد تغير
انما يبقى الذي في مهجتي اصل الخرائط كلها
ويظل مهما حاولوا التشويه
يستعطي على سرج المروءة
شامخا جيلا فجيلا
أواه إن طال الفراق
وعاش موتي غربة اخرى بغير ترابه
سأصيح في الليل البهيم
أنا العراق … متى اعود الى العراق
—–
في هذا المقطع يتحدث مظفر عن غربة ما بعد الموت , غربة التراب الذي سيغطي جسده , فحين يكون التراب غير تراب العراق فهذا يعني انه سيعاني من الغربة حتى وان كان تحت التراب .
نعم سيعاني مظفر من وطن احبه وعشقه , وتغنى بذكرياته وبأهله , لكن هذا الوطن هو الذي ضاع قبل ضياع مظفر , ولن يجد الضائع ضائعا في هذا التيه.