صائب غازي
عندما كان العراق يعيش عزلة دولية وحصار اقتصادي وسياسي واجتماعي خانق ما قبل عام 2003 كان النظام السياسي يزيد من عمق ذلك الحصار والضغط على الناس من خلال عسكرة المجتمع ومطاردتهم حتى الى داخل البيت الواحد فتعظم وطأة الحصار ويثقل كاهلهم بشكل أكبر ذلك للسيطرة عليهم وتحديد مناطق تحركهم ليس فقط جسديا وانما تحديد أنماط حريتهم وتضييقها فكريا وفنيا وثقافيا وإعلاميا أيضا وتقنين عدد الموجات الصورية المسموح بتلقيها من قبل الانسان العراقي تحت حجج وذرائع لا حصر لها ، فمثلا كانت الفضائيات ممنوعة من الدخول الى البيت العراقي والتلفزيون الوحيد المتاح مرتبط بالحكومة وبوزارة الإعلام التي تضع منهجا يتماشى مع منهج الدولة المتشبعة بافكار حزب البعث الحاكم وهو الحزب الوحيد المتاح في البلد حيث الأحزاب محظورة تماما والانتماء الى غير البعث يودي بصاحبه الى التهلكة ، وعلى إثر ذلك كان الإعلام والفن لا يخرج عن تلك الصومعة وتحت إشراف مباشر من رئاسة الجمهورية والتعليمات تتلقاها إدارة التلفزيون عبر مكتب (سكرتير الرئيس) حيث هناك خط تلفون خاص يتكون من ثلاثة أرقام بين مكتب المدير العام للاذاعة والتلفزيون وبين مكتب سكرتير رئيس الجمهورية
كان ذلك الخط يكتم اسرار الديكتاتورية ويضمن ديمومتها وفي الوقت نفسه هو الناقل للتوجيهات التي تتماشى مع العقلية التي تدير البلد والتي تحدها أطر الحملات الإعلامية التعبوية فلا إعلام لأي جهة أخرى غير تلفزيون الدولة أو بشكل أدق تلفزيون الرئيس الذي كان يظهر فيه يوميا أكثر من أي فنان أو نجم تلفزيوني آخر ، كما أن الهواتف النقالة ممنوعة والتي كان من الممكن اعتمادها وسيلة إعلام بسيطة لو تم السماح بعملها داخل العراق من خلال الرسائل والإتصالات فضلا عن الانترنيت الذي لم يعرف طريقا الى بيوت العراقيين إلا بعد عام 2003 ، اذن كيف كان يتعامل التلفزيون مع المنظومة العقلية للأنسان العراقي ذلك الأنسان الذي يميل دائما الى التمرد وعدم الرضا أو التصديق لأي خطاب بسهولة ماهي الألية التي أعتمدها الإعلام الحكومي للسيطرة على فكر ومشاعر ذلك المارد المتمرد العراقي ؟ الجواب نستخلصه من ملامح تلك المرحلة والمعايشة اليومية للمجتمع هي باعتماد النظام ألية العزل التام أي عزل الانسان العراقي عن كل محيطه الدولي والإنساني ومنع توسيع تطلعات مدركاته الحسية والثقافية والمعرفية والفكرية فكان الحصار الاقتصادي هو الحجة المثالية لذلك مع غياب السفر ومحدودية الإطلاع والتواصل مع العالم الخارجي لم يكن أمام الإنسان العراقي غير مشاهدة التلفزيون الرسمي بقناة واحدة مشبعة ومترعة بالترويج للنظام الى جانب تلفزيون شبه رسمي يملكه ابن الرئيس وهو تلفزيون الشباب الذي ينتقي من الفضائيات العربية مايريده ويعرضه للجمهور بعد اخضاع العمل المنتقى الى عمليات المونتاج والتطبير الشديدة البأس وابعاد اللقطات غير المرغوب فيها والتي ربما تذهب بعقل المتلقي نحو اسقاطات فكرية لا تنسجم وسياسة النظام القائم لقطات كان قد اجتهد اصحابها من صناع الفن والإعلام لبلورتها وتقديمها للمشاهدين ودفعوا أموالا لإنتاجها وعرضوها في قنوات العالم ولكن في مصنع تلفزيون العراق وتلفزيون الشباب يتم تمزيقها بلا رحمة بسبب عين الرقيب الحكومي في تلك القنوات وكانت الحجة السخيفة الحاضرة دائما هي أن تلك اللقطات لا تتماشى مع طبيعة المجتمع العراقي ولكن في الحقيقة هي لجعلها تتماشى مع أيدلوجية النظام السائد حتى لا يخرج المجتمع العراقي عن وصاية النظام السياسي ، كنا نعمل في تلفزيون العراق ونحسب حساب لكل لقطة أو مشهد أو كلمة في البرامج والأخبار والوثائقيات والدراما خشية أن يفسرها الرقيب المتسلط بطريقة تقودنا الى نتائج لا تحمد عقباها فكنا نبتعد جميعا عما يثير حفيظته حتى خلقنا رقيبا في دواخلنا أقرب ما يكون الى الشرطي الذي يطاردنا حتى في احلامنا ، العراق اليوم تعددت فيه المشارب والمذاهب الحزبية والاتجاهات الفكرية واصبحت الحرية فيه مفرطة أكثر من اللازم والتلفزيونات تستمد رؤيتها من ذلك الإفراط في الحريات عبر العرض والتقديم والتناول البرامجي والاخباري والدرامي ولكن ومع امتلاك هذه الحريات وتعدد القنوات التلفزيونية و وسائل الاعلام المختلفة هل اختفى هاتف سكرتير الرئيس هل انتهت سياسة التعبئة والاملاءات الفكرية أم لاتزال قائمة ؟ كيف لها ان تنتهي وهي لا تزال تعمل على خلق قطعان معبئة فكريا نحو اتجاه محدد وتتعامل مع الجمهور بشكل تعبوي مباشر للتحريض على كل ماجاء بعد عام 2003 وهي بهذا المنهج إنما تعاقب المجتمع على التغيير الذي حدث والذي لم يكن له يد فيه وبدلا من حثه على رسم خطى مستقبلية وتجاوز الماضي فهي تجعله يقف عند عتبة عام 2003 وتحوله الى انسان معبأ وناقم وبشكل مؤسف الى عقل تخريبي أحيانا كما تمناها بعض اصحاب القنوات التلفزيونية ويعملون عليها وهذا مانراه بوضوح على شاشاتهم فنيا وإعلاميا ودراميا ، إذن على الرغم من امتلاك التلفزيونات الحرية المطلقة إلا انها لا تريد للمشاهد أن يغادر تلك الحقبة (عسكرة وتعبئة) طالما هاتف سكرتير الرئيس موجود ولكن هذه المرة يأتي الأتصال من رؤساء عدة