للجمال أشكال لا يجيدُ صنعه إلا الفنان….

عماد السامرائي

كثيرة هي الشواهد الفنية التي تتجسد فيها ثقافة وحضارة البلدان التي تحتضنها لتكون موقع فخر واعتزاز للاجيال هذا من جهة، وفي الجانب الاخر تعتبر هذه الصروح كرمز من الرموز الثقافية تعبر عن حضارة ذلك البلد والتي ما أن ذكرت يذكر البلد الذي يحتضنها ويخلد القائمون عليها، وكما هو متعارفٌ عليه فإن كلٌ انسان يختلف عن الاخر من خلال الزاوية التي ينظر من خلالها الى الأشياء، وانا هنا أنظر من احدى الزوايا ألا وهي زاوية الفن والجمال والإبداع الى مملكة النرويج كبلد مستقل بذاته له عمر وعمق حضاري وفني متمثلاً بتاريخه الذي ورثه من خلال تجارب ابنائه من الفنانين والمبدعين، يمتثل امامي هذا البلد متجسداً بأحد انواع الفنون من خلال عمل النحات الفنان النرويجي (Gustav Vigeland 11 April 1869 – 12 March 1943) والذي نحت مايقارب ٢٠٠ تمثالاً بمفرده مستخدماً البرونز،الحديد اللين والگرانيت كمواد أولية لصناعة تحفه الفنية ويخرجها بتلك الحُلّة الشاخصة في قلب العاصمة النرويجية ( اوسلو ) حيث كرس حياته لذلك لإنجاز هذه التحفة الفنية متمثلةً على هيئة حديقة او متنزه سياحي يطوف عليه اكثر من مليون سائح سنوياً ينعمون بذلك الإحساس الذي يتملكهم من الوهلة الاولى وهم يقفون امام البوابة الرئىسية الرائعة التصميم حيث مزج الفنان مابين كتل الاحجار والقواطع الحديدية والمصابيح لعمل بوابة اخرجها على هيئة تحفة معمارية تتناسب وذلك الصرح العظيم الذي حوى أعماله النحتية ، وكذلك هي الأسوار المحيطة بالحديقة ومحيطها وأرضيتها التي تناسقت وبشكلٍ متجانس لتشكل بصمة الفنان التاريخية وبشكل رائع حيث تعطي للزائر ذلك الإحساس بالانسجام مابين الطبيعة التي هي في حالة حوار ومحاكات مستمرة ( على مر الفصول الأربعة ) مع تلك الأعمال الفنية التي تحتضنها، لتمهد للزائر بهدوء من خلال أجوائها الفنية وترضي فضوله عندما تبدأ لتروي له قصة الحضارة الانسانية والمراحل التي يمر بها الانسان منذ الطفولة وحتى الشيخوخة من خلال التماثيل التي هي في حالة محاكاة مستمرة مع كل من يغرق بإمعان النظر اليها محدثةً إياه وبكل لغات العالم.
ركز الفنان في هذا الصرح الفني على طبيعة العلاقات الانسانية والوجدانية واختصت بعض التماثيل مجتمعةً لتوضيح فكرة معينة أراد Gustav ان يوصلها كرسالة فنية للمتلقي، فعلى سبيل المثال كانت وجهة نظر الفنان واضحة بإتجاه علاقة الرجل بالمرأة تلك العلاقة الانسانية التي تعتبر الاثنان احدهما مكملاً للآخر وكذلك علاقة الآباء بأبنائهم وعلاقة الأمهات بأزواجهن وعلاقة الصبيان المراهقين مع بعضهم البعض ثم علاقة النساء والأطفال بالحيوانات وكانت لمسات اعتقاده جلية بإمكانية العلاقة الطبيعية مابين الانسان والحيوان بحيث من الممكن ان يلعب الأطفال مع صغار الحيوانات لتتكون تلك العلاقة الأليفة والطبيعية بينهم، اما علاقة المرأة بالحيوان فجسدها في أماكن عديده مثلاً من خلال تمثال الكركدن الذي يعانق المرأة والدب الذي تجلس المرأة على ظهره .
والجدير بالذكر ان هناك تماثيل اكتسبت شهرة واسعة لأنها صورت حالة إنسانية تعبر عنها الذات الانسانية وبشكلها العفوي لأثارة الانتباه والاستحواذ على التركيز للمتلقي كانت أهمها تمثال الطفل الغاضب ذو الصرخة الصاخبة والذي يثير انتباه وعطف كل من يشاهده وكأنه يصرخ بصوت مسموع الذي أعطى الإحساس بأن التمثال يتحدث إليك وبشكل مباشر من دون حواجز يتأثر ويؤثر بالمتلقي وهذا بحد ذاته هو تصوير لعظمة ومهارة الفنان في تكريس قدراته في تحويل حالة الحجر الصماء الى عمل فني ناطق.
وكذلك الحال هو مع الأخريات من التماثيل التي عبرت معظمها وبشكل ناطق عن حالات رصدها الفنان وجسدها عن طريق العمل النحتي المتميز ليخلق منها حوارات مع المتلقي تترجم من خلال ثقافة ووعي ذلك المتلقي، فالمسلة البشريّة ( عمود البشر) يصور فيه الفنان وضعيات مختلفة للإنسان تمدك بالإحساس لتتفاعل مع معاناة الانسان وصراعاته اليومية مع الحياة وما تلقي عليه الاخيرة من مشاعر وأحاسيس ومتاعب يومية تدور مع دوران عجلة الحياة تجعل المتلقي في حالة تواصل واستجابة تامة مع معطيات ماينطق به العمل المتمثل بحركات بشرية من خيال الفنان، وبقية الأجزاء إنما هي مكملة لبث روح الحياة في الصرح كنافورة الماء تعبيراً عن استمرارية الحياة وكذلك الجسر الذي يربط بين اجزاء الحديقة تعبيراً منه عن التواصل الاجتماعي بين طبقات العمل، لتنتهي في احدى الزوايا التي ضمت المسكن الشخصي للفنان ومقبرته الذي أنشئت برغبته الشخصية لان يوضع رفاته فيها ليعيش حياته الآخرة قريباً من مجموعة أعماله التي صورت حقبة معينة من مسيرة حياته الفنية والإبداعية، وبذلك يكون هذا الفنان قد قدمة لبلده تجربة فنية قدرها هذا البلد واحتضنها كواحدة من الصروح الرميزية ذات قيمة الفنية العالية.

عماد السامرائي
النرويج/أوسلو

(Visited 2 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *