أ.د.سعد التميمي – كاتب واكاديمي عراقي
يعكس ديوان (كتاب الفردوس )للشاعر عبد الزهرة زكي الاهتمام الواضح بالصورذات الفاعلية العالية التي تكون نتاج الانزياح والمفارقة التي تتسم بالشفافية والذاتية، ففي قصائد هذا الديوان تتشكل المعاني والأفكار بطريقة مغايرة للمألوف والسائد ، اذ تعبر عن ذات تتأمل الواقع وتتفكر فيه منتظرة المستقبل بمايحمله من آمال وآلام..وقد نجحالشاعر في ذلك من خلال تكثيف الصور في القصائد من جهة، ومن خلال حيويتها وديناميتها من جهة أخرى فضلا عن أن طبيعة هذه الصور تعكس مرجعية الثقافية للشاعر وتنوعها وغزارتها وهذا مانجده في قصيدة (رسول ضائع) التي عبر فيها عن حيرته ويأسه في الوصول الى مايحلم به فيقول :
بنایه
الفتى العبد يتوسل الفتاة الحرة
في المرج
هي طائرة بالناي
وهو يريد بلوغ الأرض به
فتى عبد
وفتاة حرة
ومابينهما
ناي رسول ضائع
فإحساس الشاعر بالعبودية وتطلعه نحو الحرية جعله يتخذ من صوت الناي شعارا للحرية، وجعل من المرأة رمزا لهذه الحرية ، وجاء وصف الفتى الذي يرمز للشاعر بالعبد ليصور احساس الشاعر وشعوره ، ولتصوير هذه الفكرة التي طالما راودها الشعراء وعبروا عنها، فإن الشاعر يرسم ابعادها بأسلوبه الخاص القائم على التصوير والايحاء الذي من شأنه أن يجذب المتلقي ويستفزه وبالتالي يجعله أكثر تعايشا مع مشاعر وانفعالات الشاعر المبثوثة في ثنايا الصور التي تتوزع في القصيدة ، ولأن الحيرة القلق والخوف يسيطر على الشاعر، فإننا نراه يلجا إلى التعريف تارة وإلى التنكير مرة أخرى فتارة يعرف الناي بالاضافة (بنايه )وأخرى ينكره في قوله ناي رسول ، ويعرف الفتي وصفته في قوله (الفتى العبد) وأخرى ينكره في قوله ( فتی عبد ) ولتاكيد حالة الضياء والحيرة التي يعيشها فإن الشاعر يتحدث الفتى الذي يرمز إليه بصيغة الغائب( الفتى، يتوسل، يريد ) فضلا عن تصویر صوت الناي بانه رسالة ضائعة ، يضاف إلى ذلك الغموض الذي يغلف صدر هذه القصيدة والذي يعكس الحالة التي يعيشها الشاعر، وهذا التوظيف الواسع للصورة نجده في معظم قصائد الديوان ، وقد أدى ذلك إلى جعل الخطاب الشعري يتميز بطاقة ايحائية عالية ذات دينامية عالية من شأنها أن تجعل المعاني تاخذ أشكالا مؤثرة كما نلاحظه في قم قصيدة “تمثال من اثينا” التي يقول فيها:
الحيوانات النافقة في أثينا
تخلف تحت التماثيل
اغنيتها التي تسخر من الموت
والموت
يسرق منها اللقى والذكريات التي
ترمم
كمال التماثيل..كلما
شوهته الحياة
اذ يصور الشاعر في هذه القصيدة الصراع بين الحياة في كل ماتمثله وما ترمز اليه ، وبين الموت بكل مايمثله ويرمز اليه ، بل تصبح الحياة صورة من الموت في رأي الشاعر، وهذا ماتعكسه الصورة التي تنتج عن مفارقة دلالية وذلك عندما استثمر الشاعر آلية الانزياح باسناد الفعل (شوه ) إلى الحياة ، بعد أن أسند الفعل ( يسرق) إلى الموت في صورة استعارية معبرة ، وبذلك كان يمكن أن يكون السياق مالوفالو أسند الشاعر الفعل ( شوه) إلى الموت ، ولكنه اختار أن يفاجي المتلقي بما لاينتظره ليستفزه ويؤثر فيه ، ومن ثم يجذبه نحو النص ليعيش افكاره ومعاناته ، وعلى عادته يستثمر الشاعر الطاقة الدلالية الكبيرة والمؤثرة التي يختزنها التضاد والتي تجعل المتلقي أقرب إلى النص وأكثر تعايشا معه فيوظف ثنائية (الحياة،الموت)من جهة وثنائية (الحرية،العبودية ) من جهة أخرى ، ورغم قصر القصيدة إلا أنها حفلت بالعديد من الصور الأخرى اضافة إلى ماذكرناه ومن هذه الصور اعمال الفعل (تخلف) في الاغنية بعد اسناده إلى الحيوانات النافقة فضلا عما توحي به كلمةالحيوانات ومايقصده الشاعر منها، ويعود الشاعر من جديد يسند الفعل (تسخر) إلى الاغنية ويعمله في الموت ينتج عن ذلك صورة شعرية مركبة ناتجة عن تداخل صورتين تقوم كل منهما على آلية الانزياح ، ومن الصور الأخرى التي جفا بها هذه القصيدة والتي تعكس أسلوب التكثيف الذي اختاره الشاعر اسناده الفعل (ترمم) الي كل من اللقي والذكريات واعماله في لفظة ( كمال )التي يضيفها الشاعر إلى التماثیل لينتج عن استثماره للسياق صورتان متداخلتان تتفاعلان مع بعض لتشكلان صورة مركبة ذات دينامية عالية ومؤثرة احسن فيها الشاعر اختيار المفردات المناسبة كما أنه أحسن اختيار السياق المناسب والآلية المؤثرة وهذا مايجعله قريبة من متلقيه ومحققا لجماليات خطابه الشعري الذي اختار له أن يكون مختلفة ومغايرا لما هو مألوف
ولما كان الشاعر يعي بان الخطاب الشعري يقوم بشكل كبير على التصوير، ولما كانت الصورة هي رسم بالكلمات فإننا نلاحظه يهتم كثيرا في رسم أبعاد صوره فضلا عن أنه يختار التداخل الذي يجعل من صوره عبارة عن شبكة مترابطة من الصور التي تؤدي كل منها إلى الاخرى وهذا مانجده في معظم قصائد الديوان ومنها قصيدة(ورقة السعادة)التي يقول فيها:
تنام على صفير فمها ورقة السعادة
صغير فمها
الموجة التي تلبط من غير أن تحس
الغيمه التي لاتدرك
تفاحه الندم الساخرة
افعوان اللذة المرئية
الم المصائر العظيمة
هفوة الغاطس الاخيرة
لهمسة التي تقوض ابواب الموت العالية
فلما كانت المرأة قد أخذت حيزا واسعا قصائد هذا الديوان فإن الشاعر يصور القصيدة ، بماتمثله المرأة بالنسبة له وقد ارتبطت صورتها بالألم والندم والمعاناة ،وهذا ماتكشفه صور هذه القصيدة التي اختار لها عنوانا يقوم على المفارقة من خلال اضافة (ورقة ) إلى السعادة التي يربطها الشاعر في أول القصيدة بالمرأة ولكنه يفك هذا الارتباط بعد حين ليجعل صفير فمها( موجة لاتحس) و(غيمة لاتدرك) و(أفعوان اللذة)و(ألم المصائر) و(هفوة الغاطس) و(همسة تقوض ابواب الموت) في صور متوالية ومعبرة تقوم على الانزياح التركيبي ، يقف فيها الشاعر بين متطلع إلى المرأة بلهفة وسعادة وبين خائف من سطوتها وعدم وفائها وبذلك يكون ديوان (الفردوس المفقود) الذي ضم عشرات القصائد التي تعود الى القرن الماضي قد قدم أسئلة وجودية تعكس علاقة الانسان بمحيطه من خلال صور شعرية مبتكرة تضج بالمعاني التي تستفز ذاكرة القارئ وتجذبه قد عكس قدرة الشاعر في استثمار الصورة وتوظيفها بالشكل الذي صبغ خطابه بألوان خاصة عبرت بصدق عن مشاعره وانفعالاته ،فضلا عن أنه حقق مايقوم عليه الخطاب الشعري من مغايرة واختلاف عن الخطاب العادي.