الاهوار حكايات وأساطير وتواريخ قهر  خُرمْ شَهرْ وحُزنُ دَهرْ

الاهوار حكايات وأساطير وتواريخ قهر خُرمْ شَهرْ وحُزنُ دَهرْ

 

نعيم عبد مهلهل

حين بدأت الحرب من جهة البصرة، سمعت لأول مرة هذا المثل الذي يقول: (ما بعد عابدان قرية) ومن فم شيخ من شيوخ القرية التي أمارس فيها تعليم أبناء المعدان.
لقد تعجبوا أن يذهب أبناءهم جنوداً إلى هناك فهي أمكنة بعيدة في نظرهم لم يصل إليها من أبنائهم سوى نوح يوم غادر هذا المكان بعد طوفان أغرق اليابس والأخضر.
واليوم يقف شغاتي أمام المعلمين وقد تقلَّصوا إلى النصف لدعوة النصف الآخر إلى خدمة الاحتياط، وقف ليعلن أن الحرب مثل الطوفان الأول، ولهذا أولادنا الآن في جبهة عبادان.
نجم دواي ناطور أفقر رجل في القرية؛ لأن لديه ولداً واحداً وثلاثة جواميس أرسلوا ولده إلى جبهة (خُرَمْ شهر)، هكذا سماها الابن لأبيه في مكتوب قرأته له أنا، وحين تخيّل الرجل البسيط مستغرباً أن الحرب وصلت إلى الهند وتخطَّت عبادان، قلت: لا يا عم مازالت الحرب عند عبادان فخرم شهر هو الاسم الفارسي لمدينة المحمرة.
تنفس الرجل الصعداء وقال: الحمد لله، ولدي بأمان؛ لأنه عند أخواله بني كعب – لأن أمه كعبية.
قلت: مع الأسف يا عم نجم، ولدكَ عند أفواه المدافع، أدعو الله ليعود لك سالماً.
قال: سيعود لأن الله يرحم من لديه واحد.
وهكذا عاش نجم على أمل أن يعود ولده من جبهة خُرمْ شهر الذي تمسك بهذا الاسم ولم يسمِّها المحمرة وحجته أن ولده كتبها هكذا في مكاتيبه.
بقيَ ينتظر أمام بيته ولم يعد يخرج مع جواميسه، وتركها تذهب وحدها وتعود وحدها ترعى في عمق الهور غير عابئ من اللصوص الذين يراقبون الجواميس التائهة، والتي لا يرافقها رعاتها. فيما تكفلت أم مكسيم في حلبها؛ لأن زوجة نجم اعتكفت في بيتها من رهبة حلم زارها في المنام أن ولدها جاء على شكل حمامة بيضاء ظلت تحوم حول البيت، ولم تحط في باحته على الرغم من أن الأم أغرت الحمامة بأن فرشت كل باحة البيت بالقمح وملأت لها إناءَ حليب لتروي عطشها، لكن الحمامة بقيت تحوم ولم تهبط دقائق، وطارت مبتعدة إلى الجهة التي يبعثون إليها نعوش موتى الحرب، وكانت تقصد مقبرة دار السلام.
لم تطلب من زهرون المندائي جوال القرية وحدادها وصائغها وطبيبها أن يفسر لها الحلم، قائلة: إن قلب الأم وحده من يفسر هكذا أحلام، وقد أخبرت زوجها نجم أن ولدهما زاهي لن يعود من (خرم شهر) إلا على شكل حمامة، تمر لدقائق مودعة أهل المنزل، ثم تذهب صَوْبَ ولاية علي.
نحب الرجل مع نحيب زوجته، ولكنه أبقى على شيء من أمل أن يعود زاهي مرتدياً بدلته الخاكية، وليس على شكل حمامة تحوم في سماء البيت، وكان في قراره إن عاد ولده حياً من جبهة خرم شهر لن يدعه يعود إلى الجبهة ثانية وسيلحقه مع بقية (فرارية) القرى الذي اقتنعوا أن المعدان لا يمتّون بصلة للراجمات وفوهات المدافع والنوم في خنادق بحيرة الأسماك.
ذات صباح فيما كان نجم ينتظر ظل خطوات ولده تقفز من الزورق معانقة الأب الذي ينتظر، حتى لاحت في الأفق حمامة بيضاء، اهتز الرجل وكاد يشهق حين اقتربت بطيرانها فوق رأسه، تسمر في مكانه مرتعباً ويائساً، وحين اقتربت بطيرانها منه، هطلت من أجفانها دمعة سقطت بأحضان الأب، ثم ارتفعت لتذهب إلى الجهة التي أشّرت عليها الأم في تفسيرها لحلمها……..!

(Visited 15 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *