جعفر حسن – كاتب بحريني
هل يمكننا تصور تلك العلاقة بين الشعر والشاعر ، وقد يسبب البحث في هذه العلاقة بعض التشوش ، وذلك من حيث أننا لا يمكن تصور شعر قيل بلا ذات شاعر فاعلة ، وذلك حتى لو غمض علينا تعيين الشاعر نفسه بمعرفة اسمه وبقية تفاصيل وجوده ، ولكننا منطقيا نفترض وجوده ، ولكن على النقيض من ذلك يمكن تصور قائل ما ، يلقي الشعر وليس بشاعر ، ولكن لا ينفي بالضرورة وجود الشاعر الأصلي ، وذلك ما يذهب بنا نحو تأكيد وجود مثل تلك العلاقة. ويمكن أن يعتبر البعض أن مجرد البحث في تلك العلاقة أمر مناف لوقائع ملموسة ومؤكدة ، وبالتالي يتصور أن الأمر لا طائل من وراءه. وتبدو المسألة للبعض الأخر أن معظم الأفكار الجديدة حول الشعر ، عادة ما تكون نابعة من البحث في تلك الإشكالية النابعة من علاقة الشعر بالشاعر ، وذلك بمعنى أن هناك تأكيد على جدوى البحث في مثل هذه العلاقة.
ويمكن أيضا أن نتفهم أن الشعر هو مجموع ما قاله الشعراء عبر تاريخ الأمة العربية ، وبالتالي لا يمكن لاحد الادعاء بأنه أكبر من الشعر ، ولعل ذلك يقلل من فخر بعض الشعراء مما أنجزوه وتغنوا به (المتنبي) ، ذلك أن الشعر مجرد من جهة ، وملموس من الجهة الأخرى ، مجرد بمعنى أنه صار مفهوما في العقل الجمعي ومتواضع عليه ، وهو بصفته تلك مفهوم متحرك عبر التاريخ وذا علاقة جدلية أيضا ، بمعنى أنه بقدر ما يكون فرديا في ذات الوقت يكون جماعيا ، وبقدر ما يتحقق بكونه شعرا بقدر ما ينزاح نحو إعادة تشكله باستمرار. ولكنه أيضا وفي ذات الوقت الذي يكون فيه مجردا ، فإننا نجده متحققا ماديا فيما عبر إلينا من قصائد على طول مدى التراث لتصلنا ولتصل إلى الشعراء. والشعر بهذا المعنى يدخل المحدود في اللا محدود ، فبقدر ما يكون الشعر خاصا لأمة ما ، إلا إنه في ذات الوقت يكون إنسانيا وعالميا مطلقا ، وذلك يؤكد كونه مفهوما مجردا متحركا ومتجددا عبر التاريخ ، وليس كل متحرك متصور يتطور بالضرورة ، لذلك وجدنا عصرا من الافتقار لفاعلية إنسانية فردانية أو تيار من الشعراء يدفع بالشعر إلى الأمام.
وبوضع الشاعر أمام الشعر ، يمكننا تلمس محدودية الشاعر أمام لا محدودية الشعر ، وذلك أنه يمكننا النظر إلى الشعر على أنه أطول مدى في الزمن من حياة الشاعر التي تشكل وجوده المتعين باعتباره كذلك ، ويمكننا تصور الشعر على كونه مطلق الوجود ، ضمن شرط إنساني بمعنى إن شرط وجوده المتحقق واستمراره في هذا الوجود مربوط بوجود الإنسانية ، بينما يمكن أن يموت ويندثر كثير من الشعراء ، دون أن يتركوا أثرا في الشعر ، ولكن أيضا لا يمكننا نكران إنه لا شعر بدون الشاعر ، ولا يتطور الشعر بدون وجود شاعر مبدع وملهم يظل في الذاكرة الجمعية بما أبدع وكون في الشعر.
صحيح أيضا ، أن هناك من يرى أن الشاعر مسؤول عن تراث أمته الشعري ، ويظل الأمر صحيحا أيضا بتوسيع الدائرة نحو فهم للشعرية يتجاوز الأمة نحو الإنسانية ، فيكون الشاعر في مواجهة كل ما يمكن أن يصل إليه من شعر من أجل تملك ما يستطيعه ، واستكناهه وعيا جماليا يضمن له فرادة التعبير. و يبدو أن الشعر أقدر على تغيير الشاعر ، بتنميته كفرد وجعله يشعر بإنسانيته وجماليات لغته .. الخ ، وليس الشاعر كفرد بخارج عن هذا التأثير عن بقية متذوقي الشعر ، ولكنه يمتاز عنهم بتلك الروح الإبداعية التي تتملكه وبالرغبة التي تندفع لتعبر عن الذات والوجود المادي والمجتمعي عبر جمالية الشعر. ويكاد الشاعر أن يغير الشعر دون أن يمكنه أن يغيره بصورة جذرية تخرجه من ذاته ، ولكنه يترك بصمة في مسيرة تاريخ الشعرية ، فإن نجح الشاعر في ذلك فيمكننا رصد تلك الإضافات التي تكون بصمة فريدة للشاعر عبر تاريخ الشعر.
ويمكننا إدراك ذلك العجز المستوطن في عدم القدرة على تملك الشعر كله دفعة واحدة ، بحيث يمكننا أن نضع تصورا جامعا مانعا يقطر في تعريف للشعر ، ولنا أن ندرك أن ذلك يتحقق بالتساوي بين الشعراء و للنقاد ، وكل ما نستطيع هو تجميع ما حاول كبار الشعراء فيه من وضع تصور للشعر ، لذلك يمكن أن نرصد ما كتبه هؤلاء المبدعين ، ونحاول أن نقبض على هذا الجوهر المستحيل ، وحتى أننا نجد مساهمات جمه من قبل تيارات العلوم الاجتماعية لتوصيف مكونات يعتقد أنها جوهرية للشعر مثل الصورة والخيال والإيقاع والبنية .. الخ ، كل ذلك من أجل القبض على كيمياء الشعر.