نعيم عبد مهلهل / كاتب عراقي
القيصر في البان هوف
في كل الهيئة التعليمية في مدرستنا (البواسل) النائمة قرب الأديم الأزلي للأهوار المحيطة لمدينة الجبايش، ليس هناك من لا يعشق متابعة كرة القدم، وأغلبنا في ولائه الوطني يكون أغلبه لناديين، الأول الميناء؛ لأنه كان يمثل الجنوب وفيه خطوط وسط أسطورية مثل هادي أحمد وعلاء أحمد، وفريق الجوية؛ لأن اللاعب الدولي وابن مدينة الناصرية (صلاح عبيد) لعب فيه مهاجماً لعدة مواسم. أما عالمياً فكان هناك أربع لاعبين يعيشون في مخيلة المعلمين هم (بيليه البرازيلي، أوزيبيو البرتغالي، يوهان كرويف الهولندي، وفرانز بكنباور الألماني).
ولأن الكهرباء لم تزر قريتنا منذ أن منحها أديسون هدية رائعة إلى البشرية ليتحول ليلها إلى نهار كما في شوارع دالاس الأمريكية، فإننا حُرمنا من متعة متابعة مباريات كأس العالم لعام 1974، والتي أقيمت في ألمانيا وذاع فيها صيت وشهرة المدافع الألماني فرانك بكنباور، والذي لقّبه شعبه بالقيصر تمجيداً لدوره في صنع النصر لبلده وحصولهم على كأس العالم في 1974.
أنا أعجبت بالقيصر أيضاً، ليس لأنه يذكرنني بحميمية العناق بين يوليوس قيصر وكليوباترا في مخادع الغرام على ضفاف النيل، أو على أريكة عرشها النوبي، بل لهيمنته في منطقة الدفاع ومعرفته كيف يوجه فريقه.
في تلك الفترة لم يكن بث التلفزيون العراقي يصل الأهوار، ومن يصل فقط هو بث تلفزيون الكويت وخصوصاً أيام (الشرجي) حيث يكون البث واضحاً، وكنا نطلق على هكذا الوضوح بكلمة (كزازه).
وكان هناك مقهى في الجبايش يملك صاحبها تلفازاً يتجمع فيها الناس ويمكنهم متابعة كأس العالم، وكنا نذهب بالدور كل يوم لمشاهدة المباريات وكانت حصتي أني أشاهد المباريات النهاية بين ألمانيا وهولندا، ولأجمع في أحداقي لهفة مشاهدة لعب لاعبين أعشقهما، وفي مباراة واحدة هما يوهان كرويف الهولندي والألماني فرانز بيكنباور، ولم يرد في خلدي أن أراها بأم عيني كحقيقة بلحمها ودمها في محطة قطار والمسماة في الألمانية (البان هوف) ولكن بمكانين وزمنين مختلفين، فالأول شاهدته سريعاً في محطة قطار أمستردام ولم ينتبه إليه أحد إلا عندما نبهني إليه صوت واحد من الأفارقة عندما قال: هذا يوهان كرويف.
لكن المشهد الرائع حين وقعت عيني على قيصر الكرة الألمانية بيكنباور عندما كنت نازلاً من القطار السريع في (البان هوف) بمدينة ميونخ حين رأيت المسافرين في كل الأعمار يتجمعون حول رجل فارع القامة وبالعقد الستيني من عمره، ولأنني لم أرَ ملامحه جيداً سألت شاباً ألمانياً: هل هذا رئيس ولاية بافاريا؟
قال: كلا إنه القيصر بيكنباور.
وقتها تذكرت ذلك المقهى الصغير في مدينة الجبايش، وكيف تسمّرت عيناي أمام حركة هذا القيصر الذي سكنت الصلعة رأسه لكن قوامه ظل مرتفعاً، ولم تنل منه انحناءة تقدم العمر.
اقتربت منه، وقدمت إليه دفتراً كبيراً كان بحوزتي وقلت له: سيد بيكنباور، هذا الكتاب الذي أكتب به قصائدي، وأنا من العراق. أرجوك وقع هنا..
ابتسم وقال: بكل سرور.
انتبهت، فطوال وقوفه هنا وهو يوقع للمعجبين الأوتوغرافات، لم ينطق بكلمة واحدة، سواي أنا، قال لي: بكل سرور…..!
* سلسلة حكايات متنوعة تاريخية وتراثية ومواقف في السيرة ينشرها الكاتب الروائي العراقي نعيم عبد مهلهل على حلقات .