حوار الجواهري
اجرى الحوار : محمد رضا نصر الله
نصر الله: كثير من القصائد التي قالها الجواهري غالباً ما تتردد فيها كلمة (الدم)، هللمقتل أخيك جعفر دورٌ في ذلك؟ ولماذا لم تستبدل مصطلح الدم بمصطلح آخر يحاول أن يؤسّس مفاهيم جديدة في العقل والوجدان العربي؟
الجواهري: والله مثل ما تفضَّلت، كأنه الآن شخص يُنبِّهني وكأنني غير منتبه إلى مسألة جعفر، وأنت في الحقيقة الآن ذكَّرتني، وقبلها لم أفكّر بهذا الموضوع، الآن جعلتني أفكر أن لها دخلاً؛ لأنه في هذه اللحظة شَخَصَتْ القصائد أمامي، قصائدي قبل مقتل جعفر وبعدها، فوجدت أنك تجد أنت بالذات بنظرة سريعة على المرحلتين قبل وبعد، فتجد الفرقكبيراً. الدم ابتدأ يتكرّر عندي كثيراً وأنا اعترف بذلك. في الواقع أنا لا أحب الدم، إلَّا دمالشهيد؛ لأن دم الشهادة ليس قليل الشأن ولا سهلاً، فأن يستشهد المرء أمر صعب، والدمغالٍ بالواقع، أنا أقول ذكرتني بالدم:
خل الدم الغالي يسيل إن المُسيل هو القتيل
هذا أنا أسميه الدم الغالي، وفي الحقيقة هناك دم رخيص مع الأسف. وفي العراق جرىكثير من هذا الدم المرتجل، غير المستهدِف، أو المستهدِف المنحرِف، أي غير المصوِّب، وغيرالرامي إلى هدف محدّد، فهذا مع الأسف يسموه الدم الهدر. هذا شيء والدم الغالي شيءآخر، الدم الغالي المصمِّم الثائر، والمثمر أيضاً؛ لأن هناك رخيصة سالت كثيراً دون أن تُثمرشيئاً.
نصر الله: وهل أثمر الدم في العراق يا أستاذ؟
الجواهري: مع الأسف وبصراحة لم يُثمر كثيراً، الدم درس، الدم عبرة وعظة. وما نحن فيهاليوم بعد هذا كله وبعد الدماء التي سالت في الواقع، مع الأسف ليست تكافئ النتائج أوالمواقف الراهنة أو قبل الراهنة أو في كل المراحل التي مرَّ بها التاريخ العراقي. كان الدمفي العهد الملكي كثيراً ما يُهدر.
فمعاهدة بورتسموث ألغيت ببيان رسمي بموقف شريف لا أشرف منه، حتى من قبلالملكية، أذيع البيان في الليلة الشهيرة وأسقطت المعاهدة نزولاً عند آراء قادة الأحزابوزعماء البلد، ورغبة الشعب اعتبرت لاغية ببيان رسمي، ونفاجأ في الصباح بمعركةالجسر وذهب فيها جعفر شهيداً رخيص الدم في الواقع. فهو دم غالٍ من جهة والمهدور منجهة مهدور. فأنا لم أفهم –مثلاً– لماذا أُلغيت المعاهدة، فكان الدم يسيل لشيء آخر، ويُدخرلمرحلة قادمة ولمطلب جديد، لا لمعاهدة أُسقطت بحد ذاتها وانتهى كل شيء.
فالدم عندي في الواقع مصدره ومنطلقه الحرص على الدم وليس الاستهانة به.
نصر الله: أستاذنا الكبير، من خلال علاقتك بالسياسي العراقي المعروف نوري السعيد،ما رأيك فيما قاله الشيخ محمد رضا الشبيبي بأن الوضع السياسي في العراق كانكبيارة المجاري التي كانت تفوح بكثير من الروائح الكريهة، وكان نوري السعيد يغطيهذه البيارة؟
الجواهري: أين قالها؟
نصر الله: قالها في موقف من المواقف ونُقلت عنه.
الجواهري: أنا لا أذكر هذه المقولة.
نصر الله: قالها –فيما يبدو– لبعض الساسة الذين أتوا ببعض الحركات الانقلابية فيالعراق؟
الجواهري: محمد رضا الشبيبي هو من رجال الحكم في العراق، وله مكانته الأدبية ولاأنكرها ولا أنتقصه، لكن تعجبني المقاييس في الواقع التي تكون جريئة وصريحة،فالشبيبي واحد من الحاكمين منذ العشرينات أو بداية الثلاثينات، أي منذ بداية الحكمالوطني حتى نهايته، ولم يجلس يوماً واحداً دون وزارة أو عينية أو نيابية.
نصر الله: هل كنت تغار منه؟
الجواهري: لا. وفي الواقع هذا سؤال جميل؛ لأنه ابن شارعي وليس ابن بلدتي، يفصلبين بيتنا وبيته شارع مثل من مكاننا هذا إلى باب الشارع، وكنت بصراحة أرجو أن أكونفيما كان فيه، ولكن لأكون شيئاً آخر غيره.
نصر الله: كيف تنظرون إلى مستقبل العراق السياسي؟
الجواهري: بصراحة أراه مستقبلاً لا يسرّ، ولن يكون للعراق مستقبل بعد هذا الذي كانكله، وحتى هذا اليوم القائم لن يكون الشيء الذي يريده الشعب العراقي أبداً، وهذا شيءمقطوع ومجزوم به، أما كيف ولماذا؟ فالحديث طويل، لكن هناك أشياء رئيسة، وليستهناك علامة واحدة الآن تدل على مستقبل العراق.
نصر الله: أستاذنا الكبير، أراك –وأنت الشاعر الذي بشَّر بالعصر الثوري في العراقوالعالم العربي– تتباكي اليوم على الفترة الملكية في العراق، لماذا هذا الحنين والانشدادإلى تلك الفترة؟ هل لأنها قدَّمت إلى العراق والعراقيين هامشاً جنينيّاً للديمقراطية إلى حدٍّما؟
الجواهري: يا أخي، لا أستطيع أن أتوسع بالمقاييس، فعلى حجم المقاييس الحضاريةالمطلوبة: هذا لم يكن، وما هو كائن اليوم. وأعتقد أنه سيطول لأن يصبح كائناً، ولكن معهذا كله، وبالنسبة إلى مقاييس الحكم أو المقاييس الحضارية ما وُجد منها وإن كانقليلاً، بالنسبة إلى كل البلاد العربية كان العراق محسوداً، بل هو المحسود الأول؛ لأنهحصل على استقلاله في سنة ثلاثين، وسوريا في عام 45، خمسة عشر عاماً بعد العراق،ولتعلم أن سوريا حضاريّاً تسبق العراق بمستوياتها، وما تزال حتى يومنا هذا، ومع هذافهكذا كانت سياسة الغرب، فأريد للعراق أن يكون نموذجاً، وكان هناك صراع شديد كابدهالملك فيصل، وكابدته الحكومات المؤلَّفة بإشراف منه، بين قوة الاحتلال والانتداب وبينالاستقلال، ودخل العراق عصبة الأمم سنة 193م. وتدرج العراق شيئاً فشيئاً إلى أن جاءالنفط ولو في أولى مراحله، فكانت هذه المرحلة مرحلة انتقال شبه مفاجئ لمستوياتحياة الناس، للعمال، ولذوي الدخل القليل، هذا من ناحية واحدة هي الناحية المادية، أماالنواحي المعنوية فقد كانت قوية، حيث كان هناك حرية أكثر مما وُجد في أي بلد عربي،حتى البلاط الملكي كان يُعرِّض به صباحاً في أكثر من جريدة واحدة.
نصر الله: قصائدك وقصائد الرصافي مثلاً؟
الجواهري: قصائدي وقصائد الرصافي ومقالات الأحزاب الوطنية مثل جريدة الأهالي،وجريدتي (الرأي العام)، وهاتان الجريدتان كانتا أبرز الصحف المعارضة.
وعلى هذا يكون كلامك عن الحنين إلى العهد الملكي الآن في محله من الأعراب؛ لأنه كانتالحرية والنموذج الديمقراطي، والمجلس النيابي نفسه كان من أقوى المجالس، والناستريد هذا العهد.
نصر الله: أستاذنا الجواهري، هناك من بعض النقاد والأدباء من يتّهم الجواهريبالشعوبية. ما حقيقة هذه التهمة؟ ولماذا تُتَّهم بها أو تُسقط عليك؟
الجواهري: أولاً حقيقة كلمة الشعوبية إلى الآن ما حُلّت، فمفهومها اللغوي والأدبي هوالمحب للشعوب، فيقال: إنه شعوبي نسبة إلى الشعب والشعوب جمع، فكلمة الشعوبهذه ما أُحسن اختيارها، وظلوا يلهجون بها، وهي مدح للإنسان، لي ولك وإلى أيِّ أحدٍأن يكون محبًّا للشعوب، فهو شعوبي، لذا فإنني أحب كل شعب، وأعتقد ببراءة كل شعب،حتى المحطَّم، والشعب الذي ليس له عنوان خاص، وليس له محل من الأعراب في مصيرالبلد، حتى هؤلاء هم أبرياء بحكم الطبيعة وحكم الموقع.
أما إذا كانوا يقصدون غير ذلك المعنى فكل شيء عندي واضح، ودواويني شاهدي عليه،وحياتي تدل على ذلك أيضاً، وتكشف أنني أنتمي لنفسي، ولمشاعري وأحاسيسي، ولايقدر إلا خالق السماوات والأرضين أن يُزحزني عن مشاعري الخاصة.
حوار مع الجواهري الحزء الثاني
الجواهري “لا يمكن أن يبلغ الشاعر المبلغ الذي بلغته دون حاسد أو حاقد أو متربّص،وخصوصاً في مجتمعاتنا العربية”
نصر الله: علاقة الجواهري بالنقد، الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وقد قدَّممجموعة كثيرة من القصائد، ولكن هذا الشعر الذي جلجل في سماء الوطن العربي لميحظَ بعناية نقدية، وقلَّما نجد كتاباً عن الأستاذ الجواهري غير الذي كتبه حسن العلوي،وسليم التكريتي، وعبد الله الجبوري، وبعض هؤلاء من اتَّخذ موقفاً ما ضد شاعريةالجواهري، هل بالإمكان أن نقف على هذه العلاقة، علاقة النقد بالشعر؟
الجواهري: هذا شأن كل واحد منا، فهذه كلها أعمال تجاه الشاعر الصادق والشاخصفتكون تزكية، ولا يمكن أن يكون الشاعر يبلغ المبلغ الذي بلغته من دون حاسد أو حاقد أومتربّص، وخصوصاً في مجتمعاتنا العربية، بل في العالم كله، في بريطانيا العظمى،وألمانيا الجبّارة، وفي فرنسا، لكن الفارق في العالم الحضاري أن يكون الشاخص ضدكبمنزلتك وبمستواك، وهذا شيء جميل وعظيم بالمنطق المؤدّب. الفرق بين هذا وبين مالدينا هو أن يكون سليط اللسان، سيِّئ الأدب، كاذباً مثلاً، حاقداً بدمه وقلمه. فكل شاخصوموهوب سيكون له حاقدون وحاسدون.
نصر الله: ما هي ملابسات قصيدتك عن الأمير فيصل بن عبد العزيز حين كان نائبًا للملكفي الحجاز التي نشرتها في جريدة أم القرى السعودية وقتها؟
الجواهري: لا أذكر ملابساتها، ولكن أذكر أنها كانت عن رغبة وإرادة.
محمد رضا نصر الله: يتَّهمك البعض بأنك أحياناً تجامل بعض الحكّام العرب فتمتدح هذاالزعيم أو ذاك.
محمد مهدي الجواهري: دائماً بعض الذين يسألونني عن هذا الموضوع أقول لهم: وجهواسؤالكم لهم: لماذا يمدحونني. لأنني لم أمدح واحداً لم يمدحني قبل هذا، هو الذيابتدأني بالمدح والتكريم، ويرشحني للجسور المهدمة، للنيابات، للأوسمة العالية،وبالتأكيد الإنسان يأخذ طبعاً عاطفيًّا، لذا أقدّر من يقدّرني، ولم أخرج عن هذه الدائرةشبراً واحداً، ولا لشخص واحد، لم أمدح إلَّا من ابتدأ بمدحي. وهذا يذكرني بحال المتنبي،فلو نظرنا إلى ديوان المتنبي العظيم لوجدناه كله أماديح، فكيف بقي صوت المتنبيمدويًّا؟ السر في ذلك أن ممدوحيه كانوا يتمدحونه ويلتمسون منه أن يجيء إليهم وأنيقول شعراً فيهم، فيقول الرجل الشعر فيهم، فما كان مدَّاحاً بل هو ممدوح في الواقع. وإلى يومي هذا أنا راضٍ عن نفسي، فكل موقف وقفته كانت له سابقة تكريم.
محمد رضا نصر الله: عرفتَ الهجرة السياسية في حياتك، فأنت قد هاجرت من العراق إلىإيران، ثم هاجرت من العراق إلى الشام، وكذلك إلى مصر، وبعد ذلك استقرَّ بك المقام فيبراغ البلد المحبَّب لديك الذي قلتَ فيه الكثير من الشعر، وتغزَّلت بجميل فتياته، هل لنا أننقف عند ظاهرة الهجرة السياسية أو المغترَب السياسي والثقافي عند الجواهري؟
محمد مهدي الجواهري: هذا صحيح، وسؤال في محله؛ لأنه من المقارنات التاريخيةوليس مفارقاته. إنك عندما تكون صاحب موقف وفكرة وقلم أو لسان أو جماعة معيّنة ذاتهدف معيّن فإنك تُخاصِم وتخاصَم، وتُطارِد وتُطارَد، ويُكتب عليك ما يُكتب على الآخرينفي التاريخ كله. فكل أصحاب المواقف –منذ عهد الإسلام الأول إلى الأموي ثم العباسيوبعده المماليك– يضطرون إلى الهجرة والتباعد والغربة. وهذا شيء طبيعي، إنما فيالحقيقة كنت أتعجّب من أن الرجل كيف يضطر إلى أن يترك بلده، وأنا لم أترك العراقبشكل مباشر ومغاضِب، إلَّا مرتين، أما رحلتي إلى إيران فكانت للاصطياف والتمتعبالربوع الجميلة صيف أو صيفين، وزرتُ مصر مرة في الخمسينات، وتوجهت إلى براغالمرة الثانية والأخيرة في الواقع.
أما ما أنا فيه اليوم –هو الرحلة الثالثة– مع فارق أنني هذه المرة تركت العراق مختاراً لامضطراً، من غير أن أُطارد أو أن أشرَّد، بل تركته لمجرد قناعة بأن أترك العراق، وأن أحتجَّعلى ما يجري في العراق. وليس لي غير هذه الرحلات أو الهجرات.
وقصة براغ قصة عجيبة، لأنه –مثل ما قلت لك– كنت أتعجب كيف يترك الإنسان بلده ولايقاوم؟! فذهبت إلى مصر لأنه لم يبقَ لي حيلة ولا وسيلة، صبرت على إغلاق الجريدةعشر مرات، إلى أن يئست، إلى أن شعرت أن مجرد وجودي في القاهرة هو احتجاج وشبهانتقام منهم، وهذا ما كان فعلاً.
وكانت الرحلة إلى براغ بعد الخلاف مع كريم قاسم حول: (ماذا في الميمونة؟)، حيثوصلت الجلسة إلى المجابهة إذ شتمني وشتمته، وأصبحت القضية كبيرة وواسعةوخطرة، وأنا أعزل وهذا الرجل هو الحاكم المطلق، فحشد عليَّ ما لا يحشد على أحد منالصحف القذرة، وأجهزة الأمن، وغيرها، ولم يكن بالمستوى العالي المترفّع، والمتسامح.
نصر الله: كيف كانت علاقة حكومة عبد السلام عارف بك؟ وكونك عدوّاً لحكومة عبد الكريمقاسم؟
الجواهري: الآن أخبرك عنها طبعاً حيث كانت هناك علاقة.
مع هذا قاومت ما لا يُقاوم، ولم أترك البلد، وكان باستطاعتي أن أغادر، من خلال اتحادالأدباء لأنه له علاقة باتحادات العالم، لكنني لم أخرج، وتحملت الكثير حيث كانت تصدرجريدة الرأي العام، وأربع صحف أخرى مملوءة بالشتائم كل صباح، ولا أقرؤها.
وذات يوم وأنا في هذه المعركة تلقيت مكالمة هاتفية من سفارة دولة ألمانيا الشرقية فيبغداد ذات الاستخبارات الأولى في العالم كله، يقول لي سكرتيرها: هل لنا أن نقابلكم؟قلت: طبعاً، لماذا لا، فقال: الساعة الفلانية في اتحاد الأدباء. ولعلمي بأن هذه دولة أجنبيةوأنا كل حركة من حركاتي مرصودة، والمأخذ سيكون كبيراً، استدعيت الدكتور المخزومي،وعلي جواد الطاهر، والسيد محمود الحبوبي، ليكونوا معي.
وباختصار جاء الوفد المكوَّن من السكرتير الأول ومرافق له، وقال: الأستاذ الجواهري،لديك دعوى من ألمانيا من اتّحاد الكتَّاب، وهذا أمر طبيعي، وكان جوابي الوحيد بكلمةمختصرة ذات دلالة، أن قلت له: والله، أنا في شبه دوَّامة ومعركة وظروف لا تسمح ليبالخروج، فأنا أعتذر، وأرشح شخصاً آخر غيري، مثل العلامة الدكتور مهدي المخزومي،قال: لا، إنها باسمك الخاص، قلت: شكراً أعتذر.
تصوَّر الفرج يأتي إليك، وتقول: لا، وأنت أمام ذئب أمعط حيث أصبح كريم قاسم معي بلارحمة.
وفي اليوم الثاني أعيدت الكرة من الجماعة نفسها والتكتيك والمكان نفسه، وكان من يُقدِّمالقهوة يعمل في الأمن. قالوا: أستاذ الجواهري، البارحة قلنا لك كذا، ونحن عند كلمتنا،وهي الحقيقة الكاملة، ولكن هناك شيئاً إضافيًّا، ونستطيع أن نختلي بك، قلت لهم: اسمحوا لي أن أقول لكم: إن هؤلاء نفسي وهم مؤتمنون معي ومعكم على كل كلمة.
فنزل الرجل عند إرادتي، وكان ذلك مجازفة منهم ومغامرة من السفارة، فأتوا إلى غرفتيالخاصة، حيث كنا في حديقة الاتحاد في شهر شباط عام 61م، وقال: الأستاذ الجواهري،البارحة قلنا لك كذا وكذا، وهو الصحيح، لكن هناك شيئاً آخر، عندنا علم اليقين بأنكستُصفى جسديًّا، فالآن لك ما تقول. كأنه يقول: لقد اضطررتنا اضطراراً أن نقول لكالسبب.
وأنا في الحقيقة فوجئت من المسألة، وكان يجب أن أحسب حساباً، ولكن ما لم يدر بخلديذلك، فقلت لهم: هذا يعني أن المسألة أصبحت بلا عنتريات، وتتطلّب موقفاً حاسماً.
فقلت: أشكركم كثير الشكر، أمهلوني إلى غدٍ لأرتب أمر الحصول جواز السفر، خصوصاًوأنه عبدالكريم قاسم لا يريدني أن أخرج من العراق، وإذا خرجت لا يدعني أستقر ولاعائلتي ولا أولادي، فبطريقة وأخرى استخرجت جواز السفر، وخرجت متجهاً إلى ألمانيا،ولا أعرف كيف بدلت وجهتي إلى براغ، حيث كانت الطائرة تحطُّ في براغ ومنها إلىألمانيا، بجايش نسميها بالعراق، يعني حصل تبديل اضطراري. وفي براغ جاء اتحادالأدباء ليستقبلني.
محمد رضا نصر الله: أستاذنا، من (بريد الغربة) إلى قصيدة (أرح ركابك)، هل بالإمكان أننتحدَّث عن عودتك إلى العراق بعد المحاولات التي حاولها –مثلاً– الفريق صالح مهديعماش حينما كان نائباً لرئيس الوزراء العراقي ووزير الداخلية هناك؟ وماذا تم بعدعودتك بالعراق الذي حيّيتها بقصائدك الجميلة؟
الجواهري: يمكن تلخيصها بسهولة، فقد حدثتك عن سفري إلى براغ واستقبال اتحادالأدباء لي، الذين يستحقون الشكر لأنهم أكرموني بما لا مزيد عليه، ومن ذلك أن العلمالعراقي في الغداء والعشاء يوضع أمام المائدة، فبقيت هناك وامتدّت حركة الدفاع عنالشعب العراقي التي كنت رئيسها، وكان لها ذات أثر في العراق بشكل كبير، وكان يصلكل شيء من عدنا للعراق في زمن عبد السلام عارف بعد كريم قاسم، الذي قُتل وأنا فيبراغ، فبقينا هذه المدة في راحة بكل معنى الكلمة، وكان الوضع في العراق لا يعجبنيحاكماً ومحكوماً، ولكن بعض الإخوان مثل ذي النون أيوب، والدكتور فيصل السامرائي،وكريم الجليل، وصلاح خالص وأمثالهم، رجعوا إلى العراق بعد تبدُّل الوضع، وأحضرواطلباً كانوا قد قدّموه للحكومة بعد أن استجيب لطلبهم، وأرادوا مني أن أوقع عليه،فرفضت التوقيع، وقلت لهم: لا أوقع، فأنا لا أريد العودة للعراق بطلب مقدّم بشفاعة، معهذا نُشر الطلب في مجلة الآداب اللبنانية واسمي الأول كستار وغطاء، باعتبار أنه طالتمدة إقامتنا، وهناك سماح لنا بالعودة، هذا هو بيانهم، فكتبت تكذيباً له، في أكثر منجريدة لبنانية، وقلت فيه: هذا كذب، أنا لم أوقع، ولن أعود إلَّا عندما يطلبني شعب العراق،ولست أطلب هذه العودة. وفعلاً بقيت مدة حتى حدث انقلاب تموز، فجئت إلى السفارةالعراقية، وكنت لم أذهب إليها ولا مرة واحدة من قبل، فقيل لي: هناك برقية لك.
نصر الله: هذا بعد انقلاب أحمد حسن البكر وصدام حسين؟
الجواهري: هناك برقية من الفريق عماش نائب الرئيس، أتلوها عليكم، تقول: إن الوطنبحاجة إلى شاعر الوطن، فنرجو حمله على العودة وكذا.
لذا تبدل الوضع في نظري، وأصبحت القضية إذا لم أرجع فسأكون عند الناس غير لائق،وتنقلب الآيات، ويُصبح الأمر وكأني أُفضِّل الغربة، فعدت إلى العراق.
والقصيدة التي تفضَّلت بذكرها لها علاقة بردّ الزيارة للفريق عماش في اليوم الثاني أوالثالث من العودة، فسألني سؤالك هذا: ماذا أعددت؟ وبالمناسبة كانت الصحف قد نشرتأن حفلاً تكريميًّا شعبيًّا ورسميًّا سيقام لفلان.. إذن وفي زيارة ردّ الجميل إلى الفريقعماش سألني هذا السؤال، فقلت له صادقاً: عندي –أبا هدى– أربع أو خمس أبيات منقصيدة لكنها أصبحت في جيبي لأني واثق منها، قال: ما هي؟ قلت له:
أرح ركابك من أينٍ ومن عثري كفاك جيلان محمولاً على خطر
كفاك موحش درب رحت تقطعه كأن مغبرَّه ليلٌ بلا سحر
ويا أخ الطير في ورد وفي صدر في كل يوم له عش مع الشجر
قصيدة جميلة، وهي واحدة من عشر قصائد من مجموع حياتي أفتخر بها، فـ(أرح ركابك) شيء عظيم، بالمناسبة أحياناً أصفن مع نفسي: من يقول هذا وأمثاله كيف يضيق بهالبلد؟ وكيف يعيش متغرباً؟ إنه سؤال محير.
نصر الله: فماذا حدث بعد الحفلة التكريمية؟
الجواهري: لم أنتبه إلا فريق عماش يفتح الدرج ويخرج قلماً وورقة ويكتب الأبيات، فظهرأنه يوم الحفل استمع للقصيدة لكي يقول قصيدة أخرى على وزنها، وهي في ديوانهموجودة، وإذا به يرحب بي شعراً –أيضاً– غير النثر، كان حفل تكريم كبيراً، ضمَّ وزراءوممثلي الأحزاب الشعبية.