ذكرى مرور خمس واربعون عاما على منعها  مسرحية دائرة الفحم البغدادية … بين الحضور والغياب

ذكرى مرور خمس واربعون عاما على منعها مسرحية دائرة الفحم البغدادية … بين الحضور والغياب

د. سعد عزيز عبد الصاحب – فنان وباحث واكاديمي عراقي

 

 

لم يدر في خلد المخرج الراحل (ابراهيم جلال)(1921ـ 1991) ان كد تمارينه المضنية لمدة اربعة اشهر وعدة ايام لمسرحيته الموسومة (دائرة الفحم البغدادية) التي عرقها الكاتب (عادل كاظم) عن مسرحية الشاعر الالماني (برتولد بريشت) ستنتهي بعرض واحد ولليلة واحدة ، ضجت بها قاعة المسرح القومي في كرادة مريم بمئات المتفرجين الذين كانوا يترقبون عرض هذه المسرحية على احر من الجمر ، ليس فقط لان مخرجها (ابراهيم جلال) بل لان ممثليها هم كوكبة جيدة ورصينة من ممثلي الفرقة القومية للتمثيل ومنهم (كامل القيسي ، قائد النعماني ، امل طه ، سامي قفطان ، افراح عباس ، حسين اللامي ، عزيز عبد الصاحب ، عبد الجبار كاظم ، عبد الصاحب نعمة ، سناء سليم ، حميد البنا ، حسن عبد ، عادل عبد الرزاق ومنذر حلمي الممثل الوحيد الاتي من فرقة مسرح اليوم واخرون ..) صمم سينوغرافيا المسرحية الفنان التشكيلي الكبير (كاظم حيدر) والاضاءة (عبد الله حسن) ..

رؤية شوفينية

حضر افتتاح المسرحية وزير الاعلام في النظام البائد آنذاك (طارق عزيز) مصطحبا بمعيته (ناصيف عواد) والذي كان يشغل عضو المكتب الثقافي أذ همس في اذن وزير الاعلام بعد انتهاء العرض بأن هذه المسرحية يجب ان تتوقف عن العرض حالا لانها كما يزعم تسيء لقضية العرب الكبرى (فلسطين) السليبة وفيها مدح ضمني لدولة اسرائيل اذ (ان الولد للام التي ربت وليس للتي ولدت ) وبهذه الرؤية الشوفينية الاحادية النابعة عن طريق فهم النظام الشمولي البعثي السائد في العراق ، ومن منطلقات دوغمائية موغلة في ايديولوجيتها قيض لعرض مسرحية (دائرة الفحم البغدادية ) ان تغادر احلامها في الاستمرار بالعرض لمدة أكثر من ليلتها الموعودة في 15 /1/1976 وتغادر نقدها للسلطة الدكتاتورية القائمة آنذاك ومركزيتها التي تحطمت على عتباتها اجمل العروض الفنية مسرحية وسينمائية وبجرة قلم ومن منظور قومي ضيق قتلت احلام ورؤى لفنانين كبار استطاعوا التعبير عن علل ومشكلات مجتمعهم من خلال ابعاد واشكال ومضامين احتجاجية رافضة ، فالتعتيم الاعلامي المقصود الذي حاق عرض (دائرة الفحم البغدادية ) حال دون ان يحظى بالنقد والتحليل ، والدخول كعينة في حقل الدراسات المسرحية وبحثها بوصفها تمثيل لحقبة سسيو ـ ثقافية ودليل على نبوغ الفن المسرحي والدرامي في حقبة السبعينيات من تأريخ بلادنا وخصوصا ما خرج من معطف المخرج الكبير (ابراهيم جلال) الذي درست عروضه وكتب عنها بأستفاضة كعروض (البيك والسايق) و(المتنبي)و( مقامات ابي الورد) و(التوأمان) و(الشيخ والغانية) الا عرض (دائرة الفحم البغدادية) الذي ناله ما ناله من الاقصاء والتهميش .

عن الحكاية والتعريق

لا بد من المرور سريعا بتلك الحكاية التي كتبها (بريشت) تحت عنوان (دائرة الطباشير القوقازية) وعرقها الكاتب المسرحي العراقي (عادل كاظم) تحت عنوان (دائرة الفحم البغدادية) والحكاية يعرفها الكثيرون وفحواها :

ـ في الزمن القديم في عصور الدماء ..

كان يحكم هذه المدينة التي تدعى الملعونة ..

حاكم يسمى جورجي ابشفيلي ..

وكان غنيا غنى قارون ..وله زوجة رائعة الجمال

وطفل قوي البنية ..

ولم يكن في جورجيا حاكم له مثل هذا المقدار من الخيول مربوطا في مزودة

وعلى بابه مثل هذا القدر من الشحاذين ..

وفي خدمته هذا المقدار من الجنود

ولا في قصره مثل هذا المقدار من اصحاب المطالب

كيف اصف لكم رجلا مثل جورجي ابشفيلي ..

كان متمتعا بالحياة .

هكذا يبدأ بريشت حكاية الدائرة المسرحية .. ثم يسقط هذا الحاكم ويشنق فتهرب زوجته تاركة طفلها الذي تأتي الطباخة او المربية (كروشا) فتحمله وتنقذه من الموت فيلاحقها جند النظام الجديد فتهرب به منهم ، وتعاني الطباخة المسكينة بسبب الطفل ابن الامراء .. لكنها تنتمي اليه ( والانسان من حيث يوجد لا من حيث يولد ) كما قال بديع الزمان الهمداني ،فتقف هذه الطباخة في المحكمة لتقول :

ـ لقد ربيته احسن تربية قدرت عليها ، ووجدت له دائما طعاما يأكله ، وفي معظم الاحيان كان يجد سقفا يستظل تحته ، ومن اجله عانيت كل انواع المتاعب وأنفقت مختلف ألوان الانفاق ، أنني لم ابحث عن راحتي وقد عودت الطفل ان يكون لطيفا مع الناس جميعا وأن يعمل قدر ما يستطيع ، وهو ما يزال صغيرا جدا …

ثم يسقط النظام الجديد ، وتعود الوجوه القديمة الى السلطة فترجع فترجع الاميرة زوجة الحاكم المقتول الى قصرها وتطالب بعودة ابنها اليها ، الا ان الطباخة ترفض وتدعي انه ابنها فتحال هذه القضية الى القاضي (أزدك) الذي تحول الى (المعنكي) عند المعرق (عادل كاظم) وهو رجل خبر الدنيا وعرفها وهو بالرغم من تعتعته وسكره ومساومته احيانا يحكم بالطفل الى الطباخة (كروشا) وقبل ان يحكم به لكروشايقول :

ـ ايها الشاكية .. وانت ايتها المتهمة .. لقد استمعت المحكمة الى اقوالكما ولم تستطع ان تتبين بأقتناع من هي ام الطفل الحقيقية .. وعلي بوصفي قاضيا ان اقرر من الام ؟ سأنظم لذلك امتحانا .. يا شوقا .. خذ قطعة من الطباشير وارسم دائرة على الارض .. ضع الطفل داخل الدائرة .. ايتها الشاكية وأنت ايتها المتهمة قفا على جانبي الدائرة كل واحدة منكما تمسك بالطفل من يده من ناحيتها والام الحقيقية منكما هي التي ستكون عندها القوة على شد الطفل خارج الدائرة .

اخيرا ترفض الطباخة (كروشا) سحب الطفل اليها قائلة : انا الذي ربيته .. هل انتزع اطرافه ! لا استطيع .. لا استطيع ..

وحين عرقها (عادل كاظم) تحولت كروشا الى حسنة وسايمون الى حسن وشوقا الى عبود وارسن كازبكي الى كتخدا ونوزيتي قشنادزهالى حمد ، ودارت الاحداث في بغداد في العهد العثماني المتأخر ايام الاحتلال التركي وتفاقم الجندرمة .. وبقي جوهر الحكاية على حاله مثلما رسمها بريشت ، وقد قدم عادل كاظم جهدا مخلصا واضافة جديدة للمسرح العراقي عند تعريقه للمسرحية وتحويلها للهجة الشعبية المحلية فالمسرحية بترجمتها الفصحى لـ(عبد الرحمن بدوي) جاءت ثقيلة وعسيرة الفهم ، الا ان عادل كاظم قدم طبخة مستساغة ولكنه اخطأ خطأ فاحشا في حذف مقدمة المسرحية التي ثبتها بريشت في البداية واعتنى بكتابتها ووضع لها عنوانا هو الصراع على الوادي .

(Visited 18 times, 1 visits today)

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *