الاهوار حكايات وأساطير وتواريخ قهر
كتب : نعيم عبد مهلهل / فرانكفورت
اكتشفت من ثلاثين سنة خدمة في بيئة المياه التي تحصر هواجسها بين إغفاءة جاموسة ورحمة نهر يجود عليها بالمياه، أن طبيعة المكان وخصوصيته هي من تخلق المزاج والثقافة والسلوك، لهذا حين أشرت على موظفي الخدمة في مدرستنا (ريكان، وشغاتي) بتثقيف أهل القرية بإرسال بناتهم إلى المدرسة، كان ردهما:
الناس هنا تفكر بالنساء كعرائس وحلابات جواميس وخبازات خبز وحاصودات قصب.
قلت: ونضيف إلى سجعكم هذا عبارة: ومتعلمات أبجديات.
قال شغاتي: أنتم ثقِّفوهم، فحين أفعل، سيمتنعون ويقولون لي: أنت ليس في خلفتك بنات، لهذا لا يهمك أن يتركن بناتنا تنانير الخبز ويذهبن إلى البعير والتل، ومازن دق بابنا…………!
ضحك الجميع، وقلت: أنا من يدق أبوابهم.
قالا: ونحن نمشي خلفك. نؤشر لك على البيوت التي تستحق بناتها المدرسة، هكذا جواسيس وإبليس.
قلت: إبليس لا يحب التعلم، النبي (ص) هو الذي يُحب العلم، سنذكر لهم هذا.
وهكذا وبجهد جهيد وصبر وزيارات كثيرة أقنعنا ثلاثة آباء لإرسال بناتهم (الحدِيثات) في الصف الأول، وغامرنا لنسجلهن في القيد العام بدون أن يكون لديهن هوية أحوال مدنية. بحجة أنهن مستمعات. المهم أن نعلم حواء واحدة، لنثبت أن الآية التي تقول: (وعلّم آدم الأسماء كلها) كانت تشمل حواء أيضاً، بالرغم أن واحداً من قراء المجالس الدينية في زيارة قديمة له أشار إلى هذه الآية وأقنع الناس هنا أن الله خص آدم فقط بهذه الآية ليتعلم.
وهكذا في بدء العام الدراسي، رأيت مظاهر مختلطة من السعادة والخوف تسكن وجوه الدمى الصغيرة (فخرية، هندامة، نشوة) وهن يجلسن في الصف الأمامي ولا يعرفن ماذا يحدث بعد ذلك، المهم يسكن دواخلهن بعض الفضول والفرح أنهن كسرن حاجز هذا العالم الذي كان حكراً على الذكور من أطفال القرية.
وفي اليوم الأول ظلّت الأمهات طوال ساعات الدوام ينتظرن بناتهن في هلع وقلق، وكأنّهن ذاهبات إلى مخفر شرطة بالرغم أن المدرسة لا تبتعد عن بيوتهن سوى أمتار قليلة.
مرت الأيام الأولى بسلام، ولأول مرة يتعلق حرف (الدال) بأجفان صبية في هذا المكان، ولأول مرة أدركن أن الصرائف في جمعهن يشكلن مكاناً نطلق عليه كلمة (دار) وأن مجموع بيوت القرية تسمى (دور).
أتخيل اللحظة الذي أتى فيه موعد توزيع القراءات الخلدونية على التلاميذ، حيث شاهدت هنا – ولأول مرة في حياتي ردفاً راقصاً لأنثى عندما هزت هندامة كتفيها راقصة بخبر أنهن سيستلمن اليوم أول كتاب تلامسه أصابعهن فيما انتشى التلاميذ وهم يشاهدون الرقصة البريئة لزميلتهم، فيما أغمضت أنا عينيَّ خجلاً، وحتى لا أحرجها ولتستمر بطقوس سعادتها، وأنا أتذكّر مقولة لمدير فرقة البولشوي الروسية وهو يقول: السعادة وسماع الموسيقا يبدأ من الكتف.
وهكذا استطعنا أن نجلب حواء إلى معبد الحرف لتكون كاهنته.
هندامة أكملت إلى الرابع وتزوجت. وفخرية نجحت من الثاني وتوفيت أمها لتكون هي ربة المنزل وغادرت المدرسة. وحدها نشوة أكملت مسيرتها إلى دار المعلمين، وهي اليوم أول حواء من بنات الأهوار تقدم أوراق التعيين لتكون معلمة على ملاك التعليم الابتدائي.