كتب د / خالد البغدادى
” الفن هو صورة خالصة للتمرد الإنسانى ”
هذا ما أكده المفكر البير كامى فى إشارة واضحة لقوة الفن وحيويته ، فقد صاحب الفن الإنسان فى كل مراحل التطور البشرى الأنثروبولوجى / والأيديولوجى ، وكان من أهم الأدوات التى إستخدمها الإنسان فى سبيل التطور والتحرر ، فالفن هو الذى يحرر الإنسان ويطلق طاقات الإبداع داخله ، هنا تتجلى قدرات وطاقات الإبداع الإنسانى الغير محدود .
وفى هذا السياق نستطيع أن نتفاعل مع التجربة التشكيلية للفنان اللبنانى روجيه طانيوس ، الذى جاء من خلفية قانونية إلا انه رغم هذا إستطاع أن يحقق لتجربته الفنية الكثير من الحضور الملحوظ محليا وعالميا ، حيث ينظم العديد من الملتقيات والفاعليات وورش العمل الفنية ، كما يشارك أيضا فى العديد من المعارض والفاعليات الفنية عربيا وعالميا .
من الجبل الى العالم
” المحلية هى الطريق الى العالمية ”
دائما ما تتردد هذه العبارة فى مجال دراسات الأنثروبولجيا الثقافية للتأكيد على القيم التراثية والإنسانية للمكان ، فلكل مكان ذاكرة تحمل قيمه التراثية والحضارية ، ودور الفن هو إعادة إكتشاف هذه القيم الإنسانية وإلقاء الضوء عليها وفق آليات العصر . وأحيانا أخرى يكون البحث فى ذاكرة المكان هو مصدر الإلهام خصوصا عندما يكون المكان له خصوصية ، وقد لعب البيئة دورا هاما فى تشكيل وعى الفنان روجيه طانيوس الفنى والثقافى ، فهو قادم من شمال لبنان ، من قمة الجبل .. حيث تلتقى السماء والأرض وتتعانق سحب السماء مع صخور الجبل الذى يقع على إرتفاع 1600 متر فوق سطح البحر .
والحقيقة أن للمكان سحر وتأثير وخصوصية يصعب تجاهلها أو تجاوزها ، فأمام شموخ الجبل وعمق الوادي .. لا تشعر إلا بالرهبة والخشوع ، خصوصا عندما يتصاعد الضباب من بين الأشجار وكأنه دخان لنار كثيفة مشتعلة .. فيغطى الجبل ويوارى غصون الأشجار ويخبأ خلفه ضوء النهار .. ونجوم الليل ، وعندما يتعانق السحاب مع الضباب .. والنجوم مع الغيوم .. عندها بفقد كل شىء بعده الفيزيقي ويتحول إلى أثير .. ويختلط الوهم بالحقيقة .. والمادي بالروحي ، ويصبح الجبل ليس مجرد صخرة تقف في الفراغ .. ولكنه ذاكرة ممتلئة يتداخل فيها الماضي والحاضر مع المستقبل .. وتصبح أنت مجرد سطر في ذاكرة هذا الجبل ..!!
وقد إستطاع إبتكار شخصية فنية من العدم ، شخصية خرجت من قلب الثقافة المحلية لتتجول حول العالم وتصبح لها حضور فنى وفكرى .. مادى / ومعنوى حول العالم ، هى شخصية (أيشك مان) الإسم يجمع ما بين اللهجة المحليه فى كلمة “أيش” التى تدل
على البحث والسؤال وبين الحداثة والمعاصرة فى كلمة ” مان ” وهو الصراع الأزلى الدائم الذى يخوضه الإنسان مع قدره ، حيث تتجاذبه العديد من القوى الراديكالية التى تربطه وتشده الى الماضى ، وقوى أخرى تجذبه الى المستقبل الذى نحاول جميعا ان نلحق به ، صراع ما بين الإنسان وذاته ، ما بين عقله وضميره ، ووعيه ولاوعيه .
وقد نظم عشرات المعارض المحلية والدولية لهذه الشخصية فى لندن وباريس ونيويورك .. وغيرها من المدن الأوربية والأمريكية ، حيث إستطاع إبتكار وصنع شخصية فنية مثل شخصية سوبر مان وبات مان وغيرها من الشخصيات التى بدأت مجرد رسوم فنية فى قصص كرتونية ، ثم مالبثت ان تطورت الشخصية وبدأت فى التحرك عبر فضاءات أخرى ، وتقتحم عوالم فنية وإبداعية أخرى ، وتتفاعل مع وسائط إبداعية مغايرة ، حيث تستقل الشخصية عن صاحبها .. وتتمرد عليه وتقوده هى الى حيث تريد ، وأتوقع أن تتجرك هذه الشخصية فى المستقبل فى فضاءات فنية أخرى ، بأن تدخل عالم الرسوم المتحركة أو تدخل عالم السينما أو الدراما..!!
الشخص والشخصية
ويتكون أيشك مان من مواد مختلفة .. بلاستيك وأسلاك ومعادن وخيوط ولادائن ، والأحجام الضخمة يدخل فى تصنعها الفيبرجلاس ، ودائما مقيد بالسلاسل والأغلال ، هذه القيود هل هى العادات والتقاليد الذى يحاول أن يتمرد عليها ، الهروب من الواقع والوقائع الى عالم الخيال الواسع الرحب ، وهو نموذج يشير الى الثقافة الذكورية التى تحاول الهيمنة والسيطرة ، مستغلا قوته الجسدية وتفوقه الذكورى ، فهو أقرب الى شخصية هرقل فى الميثولوجية الإغريقية التى تجمع ما بين نصف إنسان ونصف إلهه ، ويجمع ما بين قوة الجسد وقلب عاشق وروح مرهفة متطلعة . وأحيانا يتمرد على جسده وعلى نفسه..!!
إنه صراع الإنسان مع قدره ، الصراع ما بين القديم والحديث ، العادات والتقاليد مقابل الحداثة والمستقبل ، وبدأت الشخصية فى العمل والتحرك على اللوحة المسطحة ، وتتحرك فى فضاء التكوين الفنى ، وتتجول ما بين الحطوط والألوان والأشكال ، لكنها مالبثت أن بدأت تتمرد على محيط اللوحة وبيئتها المحدودة ، وإنطلقت للتجول فى العالم الرحب ، حيث خرجت من فضاء اللوحة المحدود الضيق الى فضاء العالم الواسع الرحب الذى يتمدد فى كل الإتجاهات بشكل لانهائى ، فنجده مرة عملاق ضخم يواجه كل الأخطار فى محاولة منه لإنقاذ العالم ، ومرة أخرى نجده عاشق مرهف الحس يحمل قلب من دهب ينبض بالحياة ، حتى وصل الى سقف كنيسة السيستينا ، حيث وضع نفسه مكان الرمز الذى يشير الى فكرة الإله ، وهى جرأة ومغامرة من الفنان ومن أيشك مان نفسه..!!
وبلغ أحجام بعض هذه التماثيل أكثر من مترين نصف ، حيث يتجاوز الصراع التقليدى ما بين الكتلة والفراغ – تلك الإشكالية التى تواجه الفنانين دائما – ليواجه إشكالية اخرى أكثر إرباكا وهى كيفية بناء وتأصيل مفهوم فنى وفكرى يؤسس لتفاعل فورمولوجى وحضور إبداعى فى فضاء ثلاثى الأبعاد فى مواجهة كل خطوب الحياة وضربات القدر ..!!
لقد أصبح للشخصية وجود وحضور مستقل وقائم بذاته حيث إستطاعت ان تفرض سطوتها وحضورها فى الوسط الثقافى والفنى ، مثلما حدث مع الشخصيات الفنية الأخرى مثل سوبر مان وبات مان وغيرهم ، فالجمهور يعرف هذه الشخصيات جيدا وربما لا يعرف من هو صاحبها أو مبتكرها..!!