عبد النبي فرج – روائي وقاص مصري
صحوتُ من النوم فوجدتُ أبي منهمكا في تفتيش الدولاب، ويرمي الملابس على الأرض حتى أفرغه من محتوياته كلها، فركتُ عيني، بحلقتُ بدهشة حين رأيته ينبطح على بطنه، يزحف تحت السرير بسرعة حية رقطاء، يدفع الأشياء للخارج: القدور، سلة بها خبز، أحذية قديمة، ثم خرج كبهلول على رأسه عنكبوت وجلابيته مغبرة، سقطت الطاقية من على رأسه، كنت أرغب في الضحك على المشهد.
ولكن من هو المجنون الذي يضحك بوجود أبي، فمن يفعلها سيصاب بعاهة مستدامة، كسر في القدم أو في ذراع. أما انا فلدي حيلة هي أن أضحك في الداخل، لقد تمرنت كثيرا حتى أجدتها. هل تسمعونني؟ من المؤكد لا! ولكني الآن أضحك بالفعل، أقهقه، وأبي لا يسمع صوتي، إذ لا تظهر على ملامحي أي علامة تدل على ابتهاجي، لن تصدقوا ذلك ولكنها الحقيقة، لا أقول ذلك كي أدين سلوك أبي، سلوكه الذي يعتبره البعض قاسياً، عنيفا . لا اقول ذلك أبدا” لأنها الطريقة الوحيدة التي يسيطر فيها على أسرة بها كائنات جانحة، لن يتردد أي فرد منها باستغلال فرصة التساهل ليرتكب أسوأ الجرائم.
أختي مثلاً، هذه التي ترونها كما لو أنها مجرد فتاة مسكينة، انثى لا حول لها ولا قوة، المثال للوداعة والطيبة، لكن الامر ليس كما ترون، فتحتِ جلدها الأبيض البريء بنت شمال، ولولا حزم أبي لأصبحت شرموطه برخصة، سوف تفضحنا في البلدة، ونحن لا نستحق هذا العار، أبي لديه كرامته وكبرياءه، لذلك يسلخ جلدها لو التفتت في الشارع، أو ارتدت ملابس توحي بالخلاعة. لذلك تسير فى البلدة كالألف وتعتبر مثالا للبنت المؤدبة لذلك تزوجت بسرعة الصاروخ، بل دارت معارك بين الشباب، لينالها، وقد وافق ابي علي عريس من عائلة كبيرة يستطيع أن يملأ عينيها البجحة، أبي يعول علي المال والقوة للسيطرة علي المره، القوة حيث يشكمها بكسر ضلع لها، والمال، حتى لا تمد يدها لغريب وهي معوذه، أما أخي هذا الذي تخرج من كلية الطب بامتياز، لولا الخيرزانات التي نزلت على زقازيق أكتافه لم يكن يفلح، لأصبح مجرد عيل صايع. بقصة ويقف علي رأس الشارع يعاكس فى بنات الناس.
حسناُ نحن أسرة كبيرة العدد، ولو طبطب أبي على هذا ودلع ذاك وحنَ على أخر، سوف يُسحق، سيتحول الى ضحوكة لأهالي البلدة، هو يعرف ذلك بشكل جيد، ولقد جرب أن أقصر الطرق للوصول إلى ما يريد هي الخيزرانة على زقازيق الأكتاف، حيث لايوجد ايّ منا ليس لديه علامة بل علامات، وشم مطبوع على جسده، لذلك نحن تحت قدميه دائما، ولكي يمشي كل شيء حسب إرادته الحرة. وفي الحقيقة أن أبي لا يريد شيئا سوى أن يعيش في سلام، في داخله رعب من فشلنا، رعب من قسوة الحياة المدمرة، وقد كان يمقت الضعفاء قليلي الحيلة الضائعين والضحايا، كان يريد أن ننتصر، يضربنا لكي يجعلنا كائنات صلبة “كالجلمود” لا تؤثر فيها مصاعب الحياة.
أعرف أبي منذ أن فتحت عيني على الدنيا، عرفته واخذتُ حياته مثالاً، أردت أن أكون مثله، لذلك كنت ادرس كل تصرف يصدر عنه، أفكر فيه، أتسرب داخل خلايا أبي مع مجرى الدم، فهو لديه حق دائما. ماكان يفسد سلام أبي الداخلي هي أمي، فعلى الرغم من استسلامها المطلق أمام كل قراراته، كان يشع منها نوع من التمرد، شعاع يعرفه أبي، أعرفه أنا أيضا، فكانت تجبره على ضربها، أو قذفها بما تجده يداه. ”
هل أبي مريضاً نفسيا، سادياً يتلذذ بتعذيب الآخرين أبدا بالمطلق بل كان هناك سلام داخلي وطمأنينة ويشرق وجهه، عندما يسير كل شيء بالمسار المطلوب” لقد كان أبي رجلا حقيقيا ، يحكم بيته بيد من حديد، ولكنها هي، أمي التي تتوفر لديها طاقة مؤذية، تكسر النظام فتحول ابي الى وحش، أنا أكرهها، أكرها وأتمنى أن تموت، فهي الدودة التي تنخر أركان البيت، تريد أن تحطمه، تريد أن تشتت شملنا، تعرينا، ولا أعرف هل هي دسيسة علينا، هل سلطها أحد ما، دفع لها في السر لكي تهزمنا جميعا، كي تجعلنا مسوخاً يسخر منا اهل البلدة كلهم ، أم انها تريد هزيمة هذا الطاغية العظيم الذي جعل لنا مكانة مهيبة في البلدة، الطاغية الذي يعرف أن طاقته ستنفد، سوف يهزم في نهاية الأمر، أعرف ذلك، أعرف لأنني أيضا أشعر أمامها بضعف، انكسارها ذاد تقتات عليه، ويعطيها قوة مرعبة، وجهها الذي اشبه برسوم النصاري يجعلنا أتمزق من الداخل، حتى اني احيانا اشعر برغبة أن أصرخ في وجهها، ماذا تريدين منا ؟ سأمرغ وجهي في الوحل، سوف أركع علي ركبتي وأبكي لكي تتوقفي عن هذا الإيذاء الإجرامي للعائلة.
أنتهي أبي من التفتيش، لم يجد شيء، سمعته يتمتم والشر ظهر على وجهه، تقلصت ملامحه بشكل جعلني أحدد مدى غضبه، ونوع الجريمة المرتكبة، احدد العقاب المفروض اتخاذه. في النهاية ترك الغرفة، خرج فخرجت وراءه، وجدته يقف في وسط البيت في مواجهة أمي وهو يقول: أنت السارقة، أنت السارقة. وكانت هي ملتزمة بالصمت، وجهها أصفر متجمد، هذا هو شكلها اثناء هذا النوع من المواقف، حتى ينفس عن غضبة، حين يتركها مثل جثة، حين نحملها بعد ذلك لغرفتنا محطمة. أحيانا أقول إنها تسعى لكي يضربها عقابا له، تجبره على ضربها لكي تفترسه الوحدة، يدمره الندم ، حتى تجعله يزحف إليها باكيا من أجل أن تسامحه، فتعود لتنام معه مرة ثانية، أبي لا يستطيع أن ينام وحدة، يظل يدور في الغرفة طوال الليل خائفا، مرعوبا لأن واحدة مثل هذه، مخلوقة من ضلع أعوج لا تريد أن تطيعه، لقد قال الرسول” لو أمرت المرأة أن تسجد لأحد بعد الله لإمرتها أن تسجد لزوجها » ولكنها عاصية، عاصية وتستحق كل الذي يجري لها. أخذ يردد: أنت السارقة، أنت السارقة. تقدم منها ومسكها من شعرها، جرجرها على الأرض، يشد شعرها بقوة حتى انتزع خصلات منه، سحبها من الضفائر، لطخ جسدها بالتراب و أخوتي كانوا ملتزمين الصمت، لا أحد له القدرة على إغاثتها، لا احد حاول ان يترجاه كي يتركها، هي أيضا كانت صامتة، لم يصدر عنها أي صوت، لم تستغث، وكان بداخلي كراهية، حقد يكبر حتى أنني ركضت علي الفأس، ضربتها بقوة على رأسها، تفجرت الدماء، سكنت أمي جثة هامدة ، ثم خرجتُ من المنزل أجري ، أشعر بخزي مرعب، خزي جعلني في غاية الرعب ولم أكن أحمل في رأسي سوى فكرة واحدة هي اني احتاج لرجل ما، أخيها، أبيها، أو أي من أبنائها الثمانية الأشداء ليقتلني ثأراً لأمي المغدورة.