وليد حسني – كاتب وباحث سياسي أردني
من المهم التوقف أمام إعلان الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش بتراجعه عن أطروحاته حول جغرافية التوراة التي اشتغل عليها لأكثر من عشرين سنة أصدر خلالها العديد من الكتب والأبحاث لإثبات مقولة أن جغرافية التوراة لم تقع في ارض فلسطين، وإنما في اليمن.
الباحث الدبش أعلن عن تراجعه عن كل مقولاته في بيان صدر نهاية شهر حزيران الماضي مسجلا بذلك حالة نادرة بين الباحثين العرب ممن ثبت لهم أخطاء مقولاتهم ونظرياتهم ــ حسب اعترافه ــ ، وهو بذلك الإعلان الجريء يسجل سابقة تحتاج للدراسة والبحث والتقييم والتقويم.
ولعل الأهم في إعلان تراجع الدبش عن مقولاته حول جغرافية التوراة اليمنية وليست الفلسطينية، هو ما يترتب عليه من مواقف باحثين عرب آخرين يتبنون تماما هذه النظرية التي تُرجع أحداث التوراة على كل ما فيها من أساطير وخرافات إلى الجغرافية اليمنية، وفي مقدمتهم بالطبع الباحث العربي العراقي فاضل الربيعي، ومن سبقه من باحثين عرب وأجانب في مقدمتهم بالطبع كمال صليبي”التوراة جاءت من جزيرة العرب”، وزياد منى”جغرافية التوراة” وأحمد عيد “جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة.”، وغير ذلك من الباحثين والمؤرخين الذين أعادوا دراسة التوراة او العهد القديم دراسة نقدية تعتمد في الأساس على اللغة، والأبحاث الأركيولوجية الآثارية التي لم تثبت حتى اللحظة أي وجود لـ”بني اسرائيل” في جغرافية فلسطين التاريخية.
ولست هنا بصدد استدعاء هذه المقولات والنظريات ومناقشتها ـ على تعددها ــ بقدر اهتمامي بما قاله أحمد الدبش في بيانه عن تراجعه عن مقولاته السابقة حول الجغرافيا اليمنية للتوراة متسائلا ” كيف أرفض إسقاط روايات الكتاب المقدس على فلسطين واخترع جغرافية بديلة بلا دليل أثري؟”، ليخلص الى نتيجة صادمة مقررا فيها أن”معظم فصول الكتاب العبري، ليست إلا قصة خيالية، أي تلفيقاً للتاريخ”، هنا يلغي أحمد الدبش أي فضاء جغرافي حقيقي للتوراة، ويتركها هباءا معلقة في فضاء مفتوح لا أثر له على الأرض في ظاهرها وباطنها.
يعترف الدبش في بيانه بما وصفه”التسرع والإرباك” في نصوص كتبه المبكرة وهي”موسى وفرعون في جزيرة العرب “، و”كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب ” الصادر سنة 2005، و”اختطاف أورشليم» سنة 2013 و “بحثاً عن النبي إبراهيم، الذي صدر سنة 2015، قائلا”أطروحتي ليست، أكثر من وهم، لا سند علمياً لها، فـالكتاب المقدس، بوصفِهِ نصاً مقدَّساً، لا يُوفِّر مصدراً تاريخياً، ولا يعكس بالضرورة، حقيقة عن الماضي، ويتساءل”كيف لي كباحث في التاريخ القديم، أعتمد الكتاب المقدس كوثيقة تاريخية، وأقر أن المشكلة تكمن، وبكل بساطة، في خطأ تحديد جغرافية الأحداث؟ كيف لي كباحث في التاريخ القديم، رفض إسقاط روايات «الكتاب المقدس» على فلسطين لانعدام الدليل الأثري، وفي ذات الوقت أخترع جغرافية بديلة دون دليل أثري؟!، ويقرر بالنتيجة” لقد احتوى بنائي التاريخي لنقل مسرح روايات «الكتاب المقدس» إلى اليمن ـ إذا ـ على أخطاء هائلة”.
وبسبب غياب الدليل الأثري يقرر الدبش أن “الكتاب العبري ما هو إلا قصة خيالية وتلفيقا للتاريخ “، هنا يتقاطع في بعض ما قرره كيت وايتلام في كتابه “اختلاق اسرائيل القديمة ـ إسكات التاريخ الفلسطيني ـ”وتوماس. ل. تومسون في كتابه “أسفار العهد القديم في التاريخ ــ إسكات الماضي ـ”.
ويبرر الباحث الدبش “أخطاءه الهائلة” في ربط الحدث التوراتي باليمن “لأني ألّفتها وقتها متأثراً بـ “خطأ تحديد جغرافية الحدث التوراتي ــ على حد قوله ــ”، ليخلص الى نتيجة مفادها”لم يكن اليمن المسرح الجغرافي لإبراهيم، ولم يشهد خروج موسى وجماعته، ولم يتم تدمير مدنه على يد يوشع بن نون، ولم تحتضن الجغرافية اليمنية أياً من ملوك بني إسرائيل، ولا يوجد دليل أثري يشير صراحةً أو ضمنياً، إلى وجودِ المملكة الداوديَّة ـ السليمانيَّة، ولم تذكر النقوش اليمنية أحداث الكتاب المقدس، ولا توجد نقوش متزامنة مع الأحداث “المُتخيلة ” التي وردت في الكتاب المقدس “.
ويضيف “أنّ قرناً من البحوث الأثريّة المكثَّفَة؛ لم يتمكن من تقديم البُرهان على أن أحداث الكتاب المقدس وقعت سواء في فلسطين أو في خارجها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق، ولا يقتصر الأمر هنا على الجانب التاريخي فحسب، بل أساساً على الجانب السياسي الراهن بامتياز “.
والسؤال الذي يطرح نفسه على الباحث أحمد الدبش، إذا لم تكن الأحداث التوراتية قد حدثت في جغرافية فلسطين، او حتى في جغرافية اليمن، فأين كانت جغرافية التوراة، في الوقت الذي لم تكشف الأبحاث الأثارية والأركيولوجية في العراق او في مصر او في الأردن عن أي وثيقة تاريخية او أثرية عن وجود مملكتين لبني اسرائيل، حتى السبي البابلي لا يزال مثار تساؤلات عن حقيقته، بما في ذلك قضية عبور”بني اسرائيل” لأريحا عبر الأردن، وبالنتيجة فإن التساؤل عن حجم الحقيقة في كل مرويات التوراة العبرية سيبقى قائما ما دامت معظم قصصها وأحداثها محض خيال، وتلفيقا للتاريخ”.
إن ما يثير إعجابي الشخصي بجرأة الباحث الدبش في تخليه عن جهد اكثر من عشرين عاما في البحث والدراسة والكتابة منافحا عن مقولاته وأطروحاته ليخلص وببيان مثير للدهشة فعلا ليقول إن كل ما قاله في كتبه وأبحاثه على مدى تلك السنين كان مجرد”أخطاء هائلة” وأن” أطروحته ليست أكثر من وهم لا سند علمياً لها “.
لقد دخلت الدراسات النقدية للتوراة العبرية حقولا خطرة مليئة بالأشواك والألغام منذ أكثر من قرن مضى، فلم يكن النقد التاريخي للتوراة يتوقف فقط عند حدود التشكيك وحتى نفي مصداقية مروياتها، بل تعدى ذلك الى نفي ان تكون تلك الأقاصيص قد حدثت فعلا سواء في جغرافية فلسطين التاريخية، أو حتى في جغرافية اليمن وجنوب الجزيرة العربية، بل إن باحثين عرب وغربيين ذهبوا بعيدا حتى وصلوا للتشكيك في حقيقة وجود أنبياء لبني اسرائيل أغرقت التوراة نفسها في تسجيل بطولاتهم وتاريخهم الشخصي.
لقد ظلت الدراسات الإستشراقية الدينية والسياسية وعلى مدى العقود الطويلة الماضية تحاول جاهدة اختلاق مكانة لجغرافيا التوراة في أرض فلسطين، لكن تاريخ الأرض نفسه لم يسعف أحدا من هؤلاء لتأكيد مزاعمهم وربما طموحاتهم الشخصية الدينية والسياسية، وكأن الأرض نفسها ترفض كل هذه الأكاذيب، وهو ما أراد الباحث أحمد الدبش التأكيد عليه في بيانه الصادم وغير المسبوق، وربما المدهش في جرأته..
وبالنتيجة فان الباحث الدبش أعاد فتح البيكار على اتساعه أمام حقل الأبحاث التاريخية حول التوراة العبرية، وأعادها لمربعها الأول، ليعاد طرح السؤال مجددا.. أين الحقيقة في مرويات التوراة بعد أن سكتت الأرض نفسها عن تقديم دليل عن مصداقية كتب التوراة وأسفارها..؟؟.
ولعل المثير للدهشة أن الباحثين العرب لم يردوا على ما أعلنه الدبش في بيانه الناسخ، ولم يتطوع أحد منهم ليقول لنا إن ما قاله الدبش حقيقي أو محض افتراء..