حجي جابر- روائي إرتري
ما إن يفرغ الروائي من قلق التحضير لكتابه ثم نشره، حتى يحشد طاقته من جديد في مواجهة قلق أكبر، إنه الشكل الذي سيتلقّى به القراء ذلك الكتاب. وإن كانت المرحلة الأولى بكل شقائها تحت سيطرته وملك تصرفه إلى حد كبير، فإن الثانية خارج حدود ذلك تماماً. فما إن يخرج الكتاب من المطبعة حتى يصبح ملك قارئه، ويغدو الكاتب مجرد متفرج على المآل الذي سيصير إليه عمله.
أمام تلك الفرجة المتحفّزة للروائي، تبدأ ردود الأفعال بنوعيها، الإيجابي والسلبي، في الورود باتجاه واحد. فيُنظر لكل قارىء أحبّ الكتاب على أنه يضيف للنص ولصاحبه في آنٍ معا، وفي المقابل تكون الآراء المقابلة خصماً بالضرورة. دون الانتباه عادة للوجه الآخر لآلية التلقّي، وما يمكن أن تحمله خارج هذه الثنائية الصارمة.
إنّ نظرة سريعة على موقع “قودريدز“ لتقييم الكتب مثلا، تُظهر التفاوت الكبير في انطباعات القراء حيال كتاب بعينه، بحيث تُغدقمجموعة عليه المديح، وتُمطره أخرى بالهجاء والانتقاص. هذا الأمر يصلح مدخلا للتفكير في عوامل أخرى تدخل في تقييم العمل الروائي أكثر، أو بالتساوي، ربما مع قيمته الفعلية.
قد يأتي القارىء إلى الكتاب بتوقعات مسبقة، إما تأثراً “بالجماعة التفسيرية“ التي ينتمي إليها، وهي مجموعة القراء التي تتشارك معه الاهتمام بشكل منظم واعٍ، كمجموعات القراءة مثلا، أو يشعر هو بقربه من أفكارها، أو يكون عرضة لتلك الأفكار عبر مواقع التواصل الاجتماعي بوعي أو دونه. وقد تكون تلك التوقعات المسبقة نتيجة عنوان الكتاب، أو الأعمال السابقة للمؤلف. إذن أياً يكن السبب فإنّ قدوم القارىء بتوقعات مسبقة لما يمكن أن يحويه الكتاب يخصم في الغالب من قيمة ذلك الكتاب متى خالف بأي قدر تلك التوقعات. وهو أمر إذا ما تمعّنا فيه قليلاً أدركنا كيف يبدو خارج مسؤولية الكتاب وصاحبه. والحديث هنا ليس عنالتوقعات المتعلّقة بالجودة من عدمها، بقدر ماهو عن توجّه وغرض وأسلوب الكتاب.
ثم إنّ القارىء أيضا، قد يأتي إلى الكتاب بمزاج معّين، فهو يقرأ الرواية ومزاجه يميل إلى حالة مسترخية تنزع صوب النصوص الشاعرية، لكنه يفاجأ بعمل ذهني يتطلّب انتباهاً أكبر، ويستخدم لغة صارمة، حتى وإن لاءمتْ المبتغى، فإنها لا تمنع ارتسام خيبة الأمل على وجه القارىء. النتيجة نفسها تحدث في حال عكسنا الصورة في الجانبين.
والقارىء يأتي إلى الكتاب محمّلاً بمعارفه وتجاربه وخبراته ومعتقداته، ويتفاعل مع النص وفقا لكل ذلك معاً. ويتفاوت القراءهنا في درجة الوعي والقدرة على رؤية الحدود الفاصلة بين ما يعنيه الكتاب بالفعل، وبين ما يعنيه انطلاقاً من تلك المعارف والتجارب والخبرات والمعتقدات. كما أنهم يتفاوتون في رغبتهم من عدمها في تحدّي مالديهم. فثمة قراء ينتقلون من كتاب إلى آخر بحثاً عما يؤكد ويدعم ما يعتقدونه مسبقا، وبالتالي فإن تعريف العمل الجيد لديهم يعني إلى أيّ مدى استطاع أن يُشعرهم بالرضا تجاه ما يؤمنون به. وهنا لنا أن نتخيّل حجم العبء الذي يتحمله النص فقط لأنه جاء بفكرة مخالفة. أما القراء الذين يبحثون عن المدى الواسع والأفكار المغايرة والجديد المفيد، ويتلمّسون اختبار مالديهم في مقابل ما قرأوه، فهم بظني، أكثر قرباً من إمكانية الحكم الموضوعي على الأعمال الروائية. وهنا يبدو من المهم إيراد مقولة الفيلسوفة والروائية الأمريكية ربيكا غولدشتاين التي تصبّ في ذات الفكرة ” إنّ ما تحاول فعله كروائي، هو أن تُمهّد الأرضية لخوض تجربة كبيرة تستعصي طبيعتها الدقيقة على أن تكون بالكامل طوع سيطرتك وإرادتك، لأنّ القراء في المقابل سيعمدون حتماً إلى إسقاط حيواتهم وشخصياتهم على عملك الروائي، وسيجعلون منه تجربة خاصة بهم“.
إذن ثمة تداخل كبير وامّحاء للحدود بين أن يقرأ الواحد الكتاب أو أن يقرأ ذاته ويُسقط توابعها على النص، بحيث يكون التقييم في آخر المطاف بحاجة لفحص وتقييم هو الآخر.
لكنّ هذه المواساة إذا جاز التعبير، لا تعني التسليم من قبل الكُتّاب بهذا التفسير وحده، والركون إلى رمي اللوم على القارىءبمفرده، دون مساءلة جودة النص فعلا على حدة وبمعزل عن أي أمر آخر. والكاتب الحصيف باعتقادي، هو الذي يستطيع التمييز بين انطباعات القراء المتأثرة بما هو خارج الكتاب، وتلك التي تنشغل بالنص تماما وتنبع عنه. لكن في كل الأحوال وأياً تكن الخلفية التي يستند عليها القارىء في تقييمه، يجب أن يحظى رأيه بالاحترام الكامل من قبل الكاتب، وذلك على الدوام.