كتب / كافي لازم
لن تتخيل الفنانة الكبيره (زينب) ولم يخطر في بالها يوما ان تقضي الربع الاخير من حياتها في المنافي فقد صبرت كثيرا في أيامها الاخيرة في بغداد يحدوها الأمل للبقاء.. فهي تحب بلدها وتعشق شعبها.. وعسى ان تهدأ الامور يوما.
يومها الجميل يمر بأنسيابية عاليه ابتداءً من التحاقها بوظيفتها صباحا لتمارس التدريس بأختصاص اللغة العربية في (ثانوية المنصور للبنات) وقد اكتسبت حب واحترام زميلاتها ، كذلك طالباتها اللائي ينتظرن بلهفة ساعة قدومها، فهي لا تنسى ان تقتطع جزء من الدرس لتعليم طالباتها حب الوطن والتفاني لخدمته ضمن منهج علمي متقدم ، هذا الى جانب تحقيقها نتائج متقدمة في البكلوريا، قالت عنها يوما مديرة المدرسة (عندما اسمع تصفيق في احدى الصفوف فلا بد أن يكون هذا الصف تابع للست زينب). وحين انتهاء الدوام لا تذهب لأخذ قسط من الراحة في بيتها فأمامها سيل من المهام التى يجب إنجازها فلابد من الذهاب الى مبنى الاذاعة والتلفزيون لأداء عملا دراميا ما، وأن انتهت لابد من الذهاب إلى مقر نقابة الفنانين فهي عضوة في المجلس المركزي للنقابة وأن قارب النهار على الانتهاء فهي بطريقها الى فرقتها الاثيرة (فرقة المسرح الفني الحديث) حيث يتسابق سائقو الاجرة لإيصالها وبالمجان ومحظوظ من حصل على هذه الفرصة.
هذه الفرقة التي انتمت اليها عام ١٩٥٧ ومن خلالها حازت على عدة جوائز تقديرية أهمها جائزة افضل ممثلة في يوم المسرح العالمي عن ادائها في مسرحية (بيت برنارد البا) بالاضافة الى اشتراكها في فلم سعيد افندي عام ١٩٥٧ (قصة يوسف العاني اخراج كاميران حسني) وفلم الحارس عام ١٩٦٧ (قصة المخرج السينمائي الكبير قاسم حول وسيناريو واخراج الراحل الكبير خليل شوقي) وكلاهما احدثا قفزة نوعية بتاريخ السينما العراقية رغم شحتها وقد حصل الفلم على الجائزة الفضية لمهرجان قرطاج السينمائي .. برزت في ادوراها المسرحية في مسرحية (أني امك يا شاكر) و(الام في صورة جديدة) كذلك في (الخرابة) و(تموز يقرع الناقوس) و(نفوس والشريعة) ودورها الابرز في (النخلة والجيران (سليمة الخبازة) و(هاملت عربيا) و (بغداد الأزل) .
لا يخفى عن الجميع ان نضالها السياسي كان متزامنا مع عملها الفني فهي دائما تبحث عن عمل يتحدث عن معاناة الشغيلة والكادحين والمرأة العراقية لذلك اكتسبت حب الجماهير أين ما تحل، في الشوارع والاسواق، وعند دخولها الفرقة وهي بكامل لياقتها وحيويتها المعتادة رغَم الجهد المبذول منذ ساعات الصباح الاولى تسأل عن زملائها فردا فردا عن شؤونهم واحوالهم بما فيهم حارس الفرقة (أبو كاظم..وسنفرد مقالا خاصا عن هذا الحارس الاستثنائي) وصاحب الكافتيريا (لويس)، بالإضافة إلى اجتماعها مع اعضاء الهيئة الادارية (وهي عضوة في هذه الهيئة) لمداولة شؤون وشجون الفرقة وحين يحين موعد التمرين تدخل غرفة الممثلين لكي ترتدي ملابس العمل وتمارس دورها كممثلة ملتزمة ومطيعه مهما كان المخرج كبيرا او شابا. بل هي تساهم في تصحيح مخارج الحروف وتحريك الكلمات واعراب الجمل بحكم اختصاصها ،كذلك هي اول الحاضرين حينما تكون سفرة سياحية للفرقة في ضواحي بغداد الجميلة وعندما يحل الليل تراجع ما انجز وتخطط الى الغد هذا بالإضافة إلى المطالعة والتأليف مع فنجان القهوة…..
قصة زواجها من الفنان لطيف صالح
قبل الدخول في هذا الموضوع لابد ان نتعرف على الفنان لطيف صالح .. بدء حياته المسرحية منذ ان كان طفلا ويقول عرفت المسرح من خلال جارنا (الفنان توفيق البصري) الذي حصل على بطاقتين للدخول واحده لي والاخرى لأخيه الفنان قصي البصري وعندما خرجنا من العرض ونحن مبهورين جدا عقدنا العزم على انتاج عمل فني في بيتنا حيث لدينا غرفه كبيره فارغه واستعملنا الشراشف وستائر البيت لغرض صنع الستاره والكواليس وجلبنا الكراسي لأهل المحله وخفنا من تزوير بطاقات الدخول واقترح قصي ان لديه جواز والدته المنتهي الصلاحيه لغرض تقطيعه وجعله بطاقات دخول.. وكانت خطة ناجحه واستمر العرض لايام.. وعند دخوله الاعداديه الف مسرحيه (الاب كان السبب) بمعاونة الفنانين البارزين فيصل العيبي وصلاح جياد اللذان صمما ونصبا ديكور المسرحيه في ثانويه البصره للبنين
تخرج من اكاديمية الفنون الجميله عام ١٩٦٩ ومن زملائه في الدورة الفنان الراحل فاضل خليل .. انتمى الى فرقة المسرح الفني الحديث عام ١٩٦٨ اخرج مسرحية (المفتاح) في محافظة البصرة .. اشترك في مسرحيات عديدة (العروسة بهيه )( الخرابة)(النفوس)(انا ضمير متكلم) ومسرحية(جد عنوانا) ومسرحية (الخان) .
كان للفرقة ،بالاضافة للعروض المسرحية مساءً، نشاطا خاصا بمجال الدراما التلفزيونية .. انتجت الكثير منها والابرز كانت تمثيلية (عبود يغني) تأليف نجيب محفوظ وسيناريو وحوار الاستاذ والفنان القدير عبد الوهاب الدايني واخراج ابراهيم عبد الجليل .
كان يومها واثناء العمل المضني في تمثيلية (قل للصوجر) تاليف الفنانة زينب واخراج ع.ن.ر(عمانؤيل رسام) والذي استمر العمل فيها من ظهر اليوم الى اليوم الثاني فجرا لضعف التكنولوجيا وقدم الاجهزة وكان الاستوديو باردآ جدآ فما كان من الفنان لطيف صالح إلا ان خلع (جاكيته) ليدفئ به السيدة زينب ومن هنا بدأت مشاعر الحب المتبادلة بينهما واستمر اكثر من عام الى ان تم زواجهما في يوم ١٣/١/١٩٧١.
وكان الشهود امام القاضي كل من الراحل يوسف العاني والفنان القدير كريم عواد والراحلة ناهدة الرماح .. وحين سأل القاضي عن المهر قالوا المقدم دينار والمؤخر دينار مما اثار دهشة الحضور وضحكاتهم وفي اثناء حفل الزواج مثّل الفنان كريم عواد مشهد الخطبة واخذ الدينار ووضعه في جيبه ومضى غير قابل للارجاع
الهجرة
كان قرارآ صعبآ جدا ان تغادر هذه السيدة بلدها وشعبها الذي احبته واحبها .لكن الهجمه الشرسة من قبل السلطات على القوى اليسارية والمضايقات المستمرة والتوجس من الاعتقال بالاضافة الى مغادرة اغلب الفنانات المشتركات في مسرحية (بيت برناند البا) اخراج الراحل الكبير سامي عبد الحميد وتاليف الكاتب الاسباني لوركا وكان كل كادر المسرحية من النساء .. فقد توقف العمل مع ان الجمهور حاضرا بكثافة الا ان السلطات اطفأت الكهرباء واكملوا العمل بأضاءة الشموع وسط ترحيب من الجمهور.
حين غادرا المسرح الى بيتهم هي وزوجها رأوا سيارة غريبة قرب بيتهم .. تجاهلوها ودخلوا البيت ولكنها انذارآ بأن حان وقت الاعتقال.وبعد مضي ساعة من الزمن رن جرس الباب فتح الباب زوجها واندهش بحضور قيادي معروف في حزب البعث مع اثنين من الرجال ..وبعد ان قامت السيدة زينب بواجب الضيافة قال لها العضو القيادي انا آت لك بأسم القيادة وهي تسلم عليك وتقول لك بأمكانك ان تطلبي بيتآ في ارقى اماكن بغداد(المنصور) كذلك سيارة احدث طراز قالت له مبتسمة وماذا بعد؟ قال : ان تتركي الحزب الشيوعي العراقي
قالت: وهل الحزب الشيوعي ثوبا ارتديه كما اشاء او اخلعه كما اشاء ان هذا الموضوع بعيد جدا.. نهض العضو القيادي مغادرا البيت بعد ان شكرها على الضيافة.
اذن حانت ساعة الاعتقال لا محال. ولكن كيف الخلاص ؟ لم يغمض لها جفن تلك الليلة وقررا الذهاب الى دولة الكويت كأقرب دولة للعراق لكن الحصول على فيزا الدخول يحتاج وقتآ كما ان اجازة السفر من الدائرة تحتاج الى عذر مقنع وقد ساعدهم في ذلك الفنان القدير فلاح هاشم الذي سبقهم الى الكويت في ابتكار فكرة وقال لهم سأحرر لكم برقية بوفاة والدة زوجها (والتي تسكن الكويت ) واوصت بضرورة دفنها بحضور ولدها لطيف صالح وفعلا وصلت البرقية وحصلوا على اجازة السفر كذلك الفيزا رغم الازدحام الكبير على سفارة الكويت حينها ثم سافرت الى لندن وبعدها الى بلغاريا والتقت هناك بكثير من الفنانين ولفترة من الزمن وعندما حضر رئيس حكومة اليمن الديمقراطيه الشعبيه عبدالفتاح اسماعيل وعرضوا حالهم عليه اصطحب زينب ونخبة من الفنانين معه في طائرتة الرئاسية الخاصه الى بلده اليمن الجنوبي.. وهناك عينت في وزارة الثقافه اليمنيه بصفة مستشار ووفرت لها البيئه المناسبه لعملها الفني لتطوير المسرح اليمني.. حينها اسست فرقة (الصداقه) ضمت اغلب زملائها المهاجرين.. صباح المندلاوي. اسماعيل خليل. انوار البياتي. نضال عبدالكريم. بديعه ابراهيم. علي كامل. رياض محمد. خليل الحركاني.صلاح الصكر. عبود الحركاني. فاروق داود.. وقد بدأت الفرقة انتاجها في مسرحيه ( في غرفة التعذيب) تاليف صباح المندلاوي اخراج سلام الصكر كذلك مسرحية (الام لبرشت ) اخراج سلام الصكر و(راس المملوك جابر ) اخراج لطيف صالح
كان جمهور الفرقة كثيفا ومنبهرا بأنجاز الفنانين العراقيين وكان لدور زينب لجلب هذا الجمهور مؤثرا لاسيما حضور مسؤولي الدولة الكبار وبعد اضطراب الوضع السياسي في اليمن اُجبر الجميع على المغادرة الى دمشق واستمرت بالعمل تحت اي ظروف وشاركت في مسرحية (الحصار )لعادل كاظم واخراج لطيف صالح ومسرحية (قسمه وحلم) اخراج سلام الصكر ومسرحية (نعناعه) تاليف زينب واخراج سلام الصكر ومسرحية (وحشة ) لجايكوف اخراج روناك شوقي كذلك (ثورة الموتى) اخراج سعد السامرائي وانضم لهم في دمشق دكتور جواد الاسدي كذلك عادل طه سالم وفاروق صبري وايمان خضير وعندما اضطربت الاحوال ايضا في دمشق قررت الرحيل الى السويد وها هي محطتها الاخيرة فقد احست بمرضها الغريب فهي لا تقدر ان تعيش بلا مسرح رغم تقدمها في السن ويبقى العراق يتنفس معها فيحدوها الامل بالرجوع الى احضان الوطن كانت الغربة قاسية عليها رغم المدة الزمنية الطويلة فهي لا تستطيع ان تتاقلم مع الاجواء الاجنبية وتقول في احدى رسائلها التي ارسلتها للفنان القدير صباح المندلاوي والتي ضمنها في كتابه(مسرحيون راحلون) “ان ما يحيط بنا يعزز الالم في جوانحنا فهنا حياة ليست حياتنا فالكل هنا غارق في احلامه ومعاناته ونحن الفنانين اشد الناس معاناة من الم الغربة ووحشتها محاولين تمزيق حجابها الجاثم على صدورنا بتقديم اعمال جادة تتحدث عن الوطن” وهنا انبثقت فرقتها الجديدة تحت عنوان(فرقة سومر العراقية) حينها اصدرت وزارة الثقافة السويدية كتابا خاصا بالمبدعين الاجانب فكانت الصورة الاولى لها بالاضافة الى الفنان لطيف صالح والفنان داوود كوركيس وكان مشروعها الاخير مسرحية (يا غريب اذكر هلك)
ازداد مرضها اللعين عليها وادخلت المستشفى وحين يدخل عليها الطبيب وهي تضحك فتقول له (دكتور جرح الاولي عوفة .. جرحي الجديد عيونك تشوفة)
ودعت الحياة هذه الفنانة الكبيرة عام ١٩٩٨ وهي تنادي عراق عراق عراق واخر ما تفوهت به هي كلمة (شكرا) وعند تشييعها تجمع المئات في الساحات وقطع البوليس الشارع في مسيرة حافلة بعدد كبير من السيارات مع ان المطر كان غزيرا لكن الجمهور استمر بمسيرته نحو المقبرة حيث دفنت هناك وزوجها لطيف صالح يصرخ صرخته الكبيرة الى اين انت ذاهبة …
من المؤسف جدا ان بعض الفنانين لم يحضروا جنازتها رغم قربهم من دولة السويد وستؤنبهم ضمائرهم مدى الحياة