إعداد / المستقل
يشكل الدين عنصراً اساسياً في السلوك الأجتماعي والثقافة العامة ،كما في العاداتوالتقاليد في منطقة الشرق الأوسط , فهو موضوع شديد الحساسية .
فالمنظومة القيمية التي يعتمد عليها سكان الشرق الاوسط تسند بشكل مباشر علىالقواعد الدينية، هذه المنظومة التي يُحرم الاقتراب منها أو المساس بها او مناقشتها ،فهي الارض الحرام التي لا يجوز الولوج لها أو الاعتراض على قواعدها وضوابطها.
كان ذلك قبل دخول الاسلاميين الى عالم السياسة , وقبل ظهور الحركات الاسلامية المؤدلجة .
لكن الحال تبدل شيئاً فشيئاً ، فقد بدا ديالكتيك الفيلسوف الالماني هيجل بشكل واضحوسريع اذ حملت هذه الحركات بذور فناءها وسرعان ما ظهرت عورات الاسلاميين تتجلىبنصاعة، مما أدى الى بروز ثقافة الجرأة والرفض لتعاليم رجال الدين، كما ظهرت حركاتالحادية علنية في كثير من الدول الاسلامية، ويرى المراقبون ان الاسباب الكامنة وراء هذاالتراجع لدور الدين في الحياة العامة,وابتعاد الشباب عن الثقافة الدينية ، هو عدم قدرةالمؤسسات الدينية على تلبية مطالب الاصلاح في المجتمعات الاسلامية .
فقد اوضحت دراسة شملت كل من ايران والاردن والسعودية ولبنان ، بأن انحسار دورالدين يكمن في المأسسة الرسمية للدين أي ان المؤسسات الدينية اللاهوتية تحولتالى مؤسسات حكومية رسمية تابعة للدولة , فهي تلعب دوراً كبيراً في صناعة السلوكالعام والاعراف الاجتماعية، المفروضة أحياناً بالقوة , مثل فرض الصلاة ومحاسبةالمجاهرين بالافطار في رمضان ، وفرض الحجاب ، والقصاص ، والجلد , وفرض المناهجالتعليمية , والبرامج الاعلامية وغيرها .
وكان السؤال الاكثر اثارة ، الذي طُرح على الشباب حول الايمان واللاإيمان في دولثيوقراطية او شبه ثيوقراطية هو :
هل تؤمن بالدين أم لا ؟
فكانت النتائج مفاجئة , اذا ان الفئة العمرية من 40-50 سنة هم الاكثر تشبعاً بالافكارالعلمانية ولديهم ايمان ضعيف يخالطه الشك في كثير من الامور ، كما لديهم تساؤلاتوجودية مقلقة، لكنهم يدعون الى إصلاح المؤسسة الدينية لتواكب التطورات .
وهذا يعني ان هناك بقايا ايمان ربما يكون وراثياً او نتيجة البيئة التي عاشت فيها هذهالفئة ، او لقناعاتهم بضرورة وجود الحالة الروحية.
بينما الفئة العمرية من 20- 40 هم الاكثر علمانية وتغلب عليهم اللاأدرية, كما يعتبرونوجود الدين غير ضروري ، مادام هناك عقل يميز بين الصح والخطأ . ويوضح البعضمن شملهم الاستطلاع ان الدين هو حالة وراثية ، مصدرها الخوف من المجهول ،ويتابعون بالقول ان الخوف من المجهول حالة مرضية، فكل المخلوقات لديها دورة حياةوتنتهي وهي سنة الحياة ، فلماذا نخاف إذا كنا صالحين؟
“لماذا نخاف والله هو كما يصفوه غفور رحيم “؟
فالله ليس شرطيا كي يتسقط عثراتنا ويبحث عن نقاط ضعفنا.
و لماذا يُنصِّب رجال الدين انفسهم محامين عن الله، والقران يقول ” ونحن اقرب اليه منحبل الوريد”
الايمان هو علاقة روحية متسامية وهي حب وسلام داخلي , علاوة على انها علاقةعمودية , فلماذا نجعلها علاقة افقية تتحكم بها المؤسسات ورجال الدين .
وقد سجل الاستطلاع الذي أجري على
25 ألف شخص في لبنان، بواسطة ”الباروميتر العربي” وهي واحدة من أكبر شبكاتإجراء الاستطلاعات بالمنطقة بالتعاون بين جامعتي برينستون وميتشغان، تمّ التوصلمن خلاله لنتيجة مفادها أن ”التدين الفردي انخفض بحوالي 43 ٪ خلال العقد الماضي،بما يشير إلى أن أقل من ربع السكان يعرِّفون أنفسهم الآن بأنهم متدينون“.
وقالت شابة لبنانية من اسرة متدينة ، أن أسرتها تهددها باستمرار في حالة تخليها عنالحجاب ”بأنها ستحترق في الجحيم“.
وتتابع الشابه اللبنانية التي تبلغ من العمر 27 عاما بعد سنوات، التحقت بالجامعةحيث قابلت مجموعة زملاء ملحدين وتحدثت اليهم : و ”تدريجيا أصبحت مقتنعةبمعتقداتهم وقررت يوما قبل الذهاب للجامعة خلع الحجاب وترك المنزل“. وتضيف: ”أصعب جزء كان مواجهة عائلتي، ولكن بداخلي كنت أشعر بالخجل لتخيب ظن والدي“.
تجدر الإشارة إلى أنه في لبنان من شبه المستحيل ألا تكون مرتبطا رسميا بدين ما، إذ أنالسجل المدني هناك يذكر طائفة كل مواطن لبناني في بطاقة الهوية. ولا يوجد ضمن الـ18 خيار من الاختيارت حقل بلا ديانة
وفي ايران البلد التي تحكمه حكومة اسلامية وتعتمد في قوانينها على الشريعة كانالاستطلاع مثيراً ، إذ شمل الاستطلاع 40 الف ايراني من الجنسين من بينهم طلابواكاديميين واساتذة ومهندسين واطباء من مختلف الاعمار. يقول استاذ جامعي عمره 45 عام ان التحولات التي يمر بها المجتمع الايراني كبيرة ومذهلة، فهناك زيادة في معدلاتالتعليم الجامعي ، بالاضافة الى عملية التمدن الملفته والتغييرات الاقتصادية المؤثرةعلى البناء التقليدي للاسرة ودخول التكنولوجيا ، وانفتاح العالم على بعضه البعضأثر كثيراً في تبدل نمطية التفكير لدى الشباب الايراني ، رغم وجود حكومة دينية .
ويقول الاستطلاع
وبالرغم من تصنيف 99.5 %من إجمالي السكان في إيران كأغلبية شيعية، ظهر
- أن 78 % فقط من المشاركين ي الاستطلاع يؤمنون بوجود الله وأن 32 % منهم فقطيعرّفون أنفسهم كمسلمين شيعة. كما عرّف 9%من المستطلعة آرائهم بأنفسهمكملحدين، و8 بالمئة كمنتمين للديانة الزراديشتية، و7 بالمئة كروحانيين، و6 بالمئةكمحايدين دينيا، و 5 بالمئة كمسلمين سنة، وأخيرا 22 بالمئة عرّفوا أنفسهم ضمنمجموعات دينية أخرى، وفقا لنتائج الاستطلاع.
لكن ما يلفت النظر في الاستطلاع هو رفض السكان للمؤسسات الدينية رغما عن إيمانالأغلبية بوجود الله“.
وهذا يعني ان هناك ضعف في التدين وليس في الايمان
وتحدثت سيدة كويتية مقيمة في السعودية عن تقلص المساحة الدينية وتراجع دو الدينفي دول الخليج وتقول: “.
منذ ما يقرب عن عشرين عاما كان الاختلاف او الاعتراض مخيفاً وهو من المحذورات ،بينما اليوم يمكنك الشعور بالاختلاف في توجهات الناس نحو الإسلام في كل مكان،على حد تعبيرها. وتقول: ”رفض الخضوع للإسلام كنظام لا يعني رفض الإسلام كدين اوكحالة روحية “.
تراجع الدين؟
وقام عالم الاجتماع واستاذ العلوم السياسية الفخري بجامعة ميتشغان الأمريكية،ومؤلف كتاب ”تراجع الدين المفاجئ“، رونالد إنغليهارت بتحليل استطلاعات للرأيمشابهة في أكثر من مئة دولة حول العالم، أجريت ما بين عام 1981 و2020، فخلص إلىأن التحول السريع نحو العلمانية ليس حكراً على الشرق الأوسط ، بل هو نتيجة طبيعيةللتطور التكنولوجي والمادي بشكل عام ، وقد تلمسناه بالدرجة الاولى في الدول الغربية.
بينما يقول باحث اكاديمي عراقي : ”الزيادة في من لا يعرّف نفسه ضمن دين معيّنلوحظ في الأغلبية المسلمة بدول مختلفة كالعراق وتونس والمغرب“
وهنا لابد لنا ان نطرح تساؤلاً مهما ً: هل تراجع دور الدين كحالة ايمانية ام كنظام حكم, مايراه الباحثون ان الايمان كحالة روحية هي خصوصية فردية ، بينما الدين كنظام هوحالة عامة تشمل الجميع ، من هنا يبدو الامر معقداً ، فكلما زاد
تمييز الناس بين الدين كإيمان والدين كنظام، ارتفعت دعوات المطالبة بالإصلاح وتراجعدور الدين في المجتمع وهو انعكاس طبيعي وردة فعل لفعل قسري .
. يرى الباحث بكلية الدراسات الدولية بجامعة نانيانغ في سنغافورة جيمس دورسي انالخلط بين مفهوم الايمان والدين هو ما افضى الى هذا الاشكال ولعل التنافس في قيادةالعالم الاسلامي بين ايران والسعودية وتركيا والامارات ، واستخدام الدين كوسيلة لترويجالافكار السلطوية أحدث هزات عنيفة في موقع الدين ، ولعل التنافس بين القوىالمتصارعة على قيادة العالم الإسلامي باستخدام الدين كقوة ناعمة أدى الى نزوع كبيرنحو العلمانية
ولعل المثال الاوضح قد حصل في النزاع الذي وقع في اقليم ناغورني كرباخ إذ دعمتايران ارمينيا المسيحية بينما دعمت تركيا اذربيجان المسلمة, وكمثال اخر في الخلط بينالمفهوين ” الدين والايمان” الذين أديا الى زعزعة الحالة الدينية في الشرق الاوسط عندالناس هو الاختلاف في الثوابت وتطويعها حسب الرغبة “.
فمثلاً رفعت الإمارات الحظر عن استهلاك الكحول والسماح لعلاقة في منزل واحد خارجإطار الزواج، بينما اعتبرت السعودية الإيمان بأفكار ملحدة شكلا من أشكال ”الإرهاب“.
من هنا طرح البعض من المعترضين على استخدام رجال الدين للمقدس اسئلة وبقيتدون اجابة مع اتهام اصاحبها بالردة والكفر، بينما تلقفها الشباب عبر مواقع التواصلواصبحت حديث الشارع الاسلامي وولدت افكار نوقشت بشكل علني عبر وسائل اعلامعالمية . وكان التساؤل الاكثر انتشاراً هو: لماذا لا يلبي الدين متطلبات الحياة المادية ،ولماذا يتم التركيز على الروح دون الجسد وعلى الغيب دون الحضور .
هذه الدراسة لم تكن الاولى ولن تكون الاخيرة وسيستمر السؤال ما دام النموذج الييُقدم غير قادر على تلبية حاجة الناس في العيش الكريم . وسيبقى الخلط بين الايمانوالدين مادام هناك رجال ومؤسسات تعتاش على الدين كمحرك فاعل لهم، لكنه سيؤديبالنتيجة الى تراجع دور الدين في المجتمع .