نقد أخبار السيرة النبوية- للأستاذ غالب الشابندر

محمد عبد الجبار الشبوط

انتهيت مؤخرا من قراءة كتاب «نقد أخبار السيرة النبوية» الضخم (حوالي ١٠٠٠ صفحة) لاستاذنا الصديق والاخ غالب حسن الشابندر — وهو الجزء الأول من موسوعته التاريخية —

والكتاب يعد واحدًا من أهم المحاولات الحديثة لإعادة دراسة السيرة النبوية بعقلية نقدية علمية صارمة، إذ يقدّم قراءة منهجية تتعامل مع الروايات الواردة في السيرة بوصفها مادة تاريخية قابلة للفحص والتحليل والمراجعة، لا مسلمات جامدة أو نصوصًا مقدسة لا تقبل النقاش، ويعود فضل الكتاب إلى أنّه يكشف للقارئ حجم الاضطراب المنهجي في روايات السيرة المتأخرة ويبيّن أن غالب هذه الأخبار مرسل أو ضعيف أو متناقض، الأمر الذي يستدعي مراجعة جذرية للتاريخ النبوي وإعادة كتابته على أسس موضوعية. ويعتمد الشابندر في كتابه منهجًا يقوم على نقد السند والمتن معًا، فهو لا يكتفي بالتحقيق الحديثي التقليدي، بل يتجاوز ذلك إلى تحليل السياق الاجتماعي والسياسي والفكري الذي نشأت فيه الروايات، ويُبرز أثر البيئة التاريخية وصراعات السلطة والفرق على عمليات التدوين، كما يدرس الخلفيات التي دفعت إلى تضخيم بعض الأحداث أو تشكيل صورة مثالية غير واقعية عن سيرة الرسول محمد ﷺ، ويبدو واضحًا في عمله حرصه على تنقية السيرة من الإسرائيليات والمرويات المتأخرة التي تسربت عبر الزمن حتى أصبحت جزءًا من الوعي الديني العام. ويؤكد الكتاب على حقيقة جوهرية تتمثل في أن تدوين السيرة تم بعد قرن أو قرنين من عصر الرسالة، ما أدى إلى اتساع المسافة بين الحدث والرواية، وسمح بنمو طبقات من الأخبار التي لا تستند إلى وثائق معاصرة، وهو ما يضعنا أمام ضرورة فكرية ملحّة: إعادة كتابة السيرة وفق منهج علمي رصين، يستند إلى ما صحّ من الروايات ويتعامل مع البقية باعتبارها نصوصًا أدبية أو ثقافية أنتجتها العصور اللاحقة، لا وقائع تاريخية قطعية، وتكمن قيمة هذا المشروع النقدي في أنه يعيد إلى السيرة بُعدها الإنساني الواقعي، فيقدّم النبي محمدًا ﷺ بوصفه قائدًا ومصلحًا ومؤسسًا لمشروع حضاري، لا شخصية أسطورية محاطة بالمعجزات والروايات غير الموثوقة. ومن خلال هذا الطرح، يفتح الشابندر الباب واسعًا أمام جيل جديد من الباحثين لإعادة دراسة السيرة النبوية وفق منهجيات حديثة تكسر نمط التلقي التقليدي، وتمنح النصوص التاريخية حقها في النقد والتحليل، وبذلك يتقاطع الكتاب مع الاتجاهات الفكرية التي تدعو إلى فهم حضاري للرسالة الإسلامية قائم على العقل والقراءة العلمية للتاريخ، ويُسهم في تمهيد الطريق نحو سيرة نبوية جديدة أكثر صدقًا وموضوعية واتساقًا مع روح العصر. إن «نقد أخبار السيرة النبوية» ليس مجرد جهد في التحقيق الحديثي، بل هو مشروع لإعادة بناء الوعي التاريخي الإسلامي على أسس علمية، وهو ما يجعل هذا الكتاب واحدًا من أهم المساهمات المعاصرة في تجديد فهمنا لسيرة الرسول محمد ﷺ والانتقال بها من عالم الرواية المتخيلة إلى فضاء البحث الحضاري الموضوعي.


مشاركة المقال :