( انطباعات في مهرجــــان العمـــارة العربي في بغداد 2025 )

علي الحسّاني / باحث في فنون العمارة الإسلامية 

انعقد مهرجان العمارة العربي و جائزة تميّز للعمارة فيبغداد في شهر أكتوبر 2025، برعاية رئاسة الوزراء العراقيةو نقابة المهندسين العراقيين، والتي نظّمها مؤسس الجائزةالمهندس المعمار أحمد الملّاك و فريقه، لقد جمع هذا المهرجانبين خبرات المعماريين العراقيين والعرب والأجانب فيمساحة فكرية غنية، تدور حول هموم العمارة وشجونها،وتسعى إلى بلورة رؤى معاصرة تحفظ التراث وتواكبالحداثة في آنٍ واحد.

خلال أيام انعقاد المؤتمر كانت لي فرصة للتحدّث و فتحالنقاشات مع النخب المشاركة في المهرجان، أترك للمتابعالكريم بعضاً منها، حيث تحدّث الدكتور تراث جميل المنسقالعام لجائزة تميز حول رؤية الجائزة في أن تكون منصةعالمية رائدة تجمع المهنيين والمؤسسات وتُشعل الابتكار فيمجال العمارة، أما الهدف منها هو الاحتفاء بالمواهبالمعمارية الشابة وتعزيز الثقة بإمكانياتهم في دفع التقدمالمعماري.

‏من لبنان يرى الدكتور جوزيف الحوراني رئيس هيئةالمعماريين العرب: كان للمؤتمر حسنات كثيرة إلّا ثغرة واحدةأنا برأيي الحسنات هي كل معمار اليوم جلب تراكم خبراتهوعرضها على الزملاء لتبادل الخبرات وهذا شيء أساسيفي العالم العربي أنه اليوم تستطيع أن ترى أعمال هذهالخبرات في الجزائر أو تونس ولبنان أو مصر ويجب أنتكون هذه النقاشات دورية و مستمرة و قصة أساسية،الثغرة أنه هذا النقاش العلمي الذي تم بين المتخصصينالمعماريين الذين يحملون نفس الأحاسيس بما يخص الهويةوالترميم والتراث أنا برأيي كان لازم إشراك المجتمع المدنيببعض الحوارات حتى يتم الانتقال من الخبراء للتطبيق،وكان المهرجان غني بالمشاركات من الدول المتعددة و ناجح.

و قد تحدّث لي المعمار الدكتور موفق الطائي عن المهرجان : قد يندر ومنذ سنين أن يحدث هكذا مناسبة تلم شملالمعماريين وطلبة العمارة كما حدث في هذا المهرجان وكانفي منتهى التنظيم وخلاصة الفكر المعماري العراقيوالعربي وكان بحق مفخرة لكل معمار عراقي في العصفالذهني والتنظيم الرائع والروح الاجتماعية الحميمية التيسادت المؤتمر.

و قد طرح الدكتور شبر فلاح رئيس قسم هندسة العمارةبجامعة الكوفة نقاشاً و أسئلة حول من يصنع المدينة فيالعراق؟ حيث قال: الشكل النهائي لأي مدينة لا يُرسم فقطبقرارات السياسة أو بسطوة المال أو بالقيود الاجتماعية. هذه عوامل حاكمة بلا شك، لكنّها تظل خاملة ما لم يترجمهاالمعماري والمصمم إلى صورة ملموسة على الأرض.

هو من يضع الفكرة ويصوغ الهيئة النهائية لأي مبنى أومنشأة، وهو من يحوّل التوجيهات العامة إلى فضاء قابلللعيش.

الدوحة أو  دبي أو حتى أربيل مثلاً: لم تكن لتصبح ما هيعليه من دون الإرادة السياسية والمالية، لكن المشهدالحضري الذي نراه ، صاغته المكاتب الاستشارية والخبراتالمعمارية العالمية، وأردف قائلاً : مهرجان العمارة العربي فيبغداد حدث استثنائي، لا يتكرر كل يوم، ربما كل ربع قرن. لقاء لأهم مجموعة في مستقبل المدينة، لقاء أصبح واقعاًبفضل جهود إدارة تميز، أحمد الملاك و فريقه، وبدعم مباشرمن رئيس الوزراء، ونقابة المهندسين.

الآن ربما يسأل سائل: وما فائدة هذا اللقاء إن لم تتحولتوصياته إلى مشروعات على الأرض؟

الحقيقة، في العراق خصوصاً، أهمية هذا اللقاء  تكمن أولاًفي جلي و إبراز و تظهير دور المصمم في عملية التطويرالعمراني، وثانيًا في رفع مستوى الوعي الشعبي بأهمية أنيكون للمعماري كلمة مسموعة في القرارات. وربما ستصبحمشكلات المدينة العمرانية ، مهمة رأي عام، و هذا ما نطمحله. المدينة الجيدة لا تُبنى فقط بمعماري كفوء أو اقتصادقوي، بل تنمو وتترسخ بجناحين معًا: وعي شعبيبمشكلاتها وفرص تطويرها، وإرادة حقيقية لتفعيل دورالمختصين.

لهذا السبب، فإن مثل هذه اللقاءات ليست مجرد مهرجانات،بل هي خطوات في بناء هذا الوعي، وفتح نافذة أمل لمدنعراقية أجمل وأكثر إنسانية.

في حين يرى أ.د. هيثم عبد الحسين الشمري رئيس قسمهندسة العمارة في كلية الهندسة بجامعة النهرين : أن أهمما لفت انتباهي هو الطاقة الإيجابية والشبابية المطعمةبالخبرة التي سادت أجواء المهرجان و المكان و كذلك أنالجميع يحمل رؤى معمارية  ونوايا حقيقية مضيئة تحاول أنتجعل من عمارتنا عمارة رصينة  وإنسانية وبالتالي  يمكننيالقول كوصف شاعري: أن للعمارة هالة نورانية تحيط بهاممكن أن نستشعرها في هكذا فعاليات من الجزائر كانتمساهمة للمعمارية صليحة بن مسعود، الخبيرة و المختصةفي ترميم المعمار الترابي حيث تقول: مثَّل المهرجان محطةًنوعية اجتمعت خلالها نخبة من المعماريين من مختلف أنحاءالوطن العربي. والجميل في هذه المبادة انها اتسمتبالتوافق الجماعي حول الدور المحوري للمعماري في إعادةصياغة ملامح مدننا العربية، والمساهمة الفاعلة في الارتقاءبالواقع المعماري والحضري من خلال رؤى معاصرةمتطورة، تستلهم في الوقت ذاته الأصول والهوية المعماريةالأصيلة.

فتاريخنا المعماري من المشرق الى المغرب العربي، يحملإرثاً غنياً وحضارياً عريقاً، مما يضع على عاتقنا مسؤوليةالسير قدماً في تحقيق هذه الرسالة النبيلة للإسهام فيتشكيل مدن تليق بماضينا المجيد، وتنقل للأجيال القادمةإرثاً معمارياً مشرفاً لأمة تفتخر بجذورها وهويتها، مع وعيكامل بمتطلبات العصر واحتياجات مجتمعاتها المعاصرة.

من سلطنة عمان كان لحضور المهندس المعماري و الإعلاميعلي اللواتي الأثر الطيب في إدارة بعض الورش و الندواتو عن المهرجان تحدث قائلاً :

إن هذا المهرجان كان استثنائي جداً ومنقطع النظير اشتملعلى توزيع حفل جوائز تميز وجاء مختلف عن السنواتالعشر السابقة تماماً من حيث الحجم ومن حيث نوعيةالفعاليات ومنقطع النظير عن الفعاليات المعمارية الأخرىالتي يتم الاحتفال بها من قبل المعماريين في الوطن العربي،كل الفعاليات فيها صفة علمية ورسمية إلّا بغداد هذه السنةأضافت خاصية جديدة أن هناك حميمية عائلية بالرغم أنالفعاليات كانت من أول الصباح إلى آخر الليل وكان الجدولضاغط ومزدحم بالفعاليات ومرهق ولكن جميعاً كنا نشعرأننا عائلة واحدة في بيت واحد، بغداد أعطتنا شعور العائلةولم نشعر أننا ضيوف أو مغادرين من بلداننا والأمر الآخرفي العراق خرجت أسماء كبيرة سواء فنانين ومعماريينوشعراء ولا زال اليوم ينتج العراق أرقاماً صعبة فمن يدرسالفن العربي لا يستطيع أن يتجاوز الفنان جواد سليم ومنيستطيع أن يقرأ الشعر ويتجاوز الشاعر الكبير الجواهريومن يستطيع أن يتجاوز محمد مكية أو زها حديد فيالعمارة و هما من روادها سواء تكلمنا عن العمارة كهوية أوعمارة الحداثة ولا زال العراق يقدم نماذج وجهابذة فيالعمارة ولم يقتصر على تقديم نخبة من المعماريين وإنماالعراق اليوم يجمع المعماريين فمن يتخيل أن يجد الدكتورعبد الواحد الوكيل والدكتور راسم بدران في مكان واحدببغداد.

من جانبه الأستاذ المساعد دكتور زهير عبد العظيم نصارالتدريسي في جامعة الكوفة كلية التخطيط العمراني : اعتبرالمهرجان لم يكن مجرد احتفاء بالعمارة، بل مساحة نقديةعميقة لإعادة التفكير في مستقبل الممارسة والتعليمالمعماري العربي. هذا النوع من اللقاءات يعيد لبغداد دورهاالتاريخي كمركز للحوار والإنتاج المعرفي، من وجهة نظري،أكبر التحديات التي تواجه العمارة في العراق والمنطقة تتمثلفي مستقبل التعليم المعماري في ظل الذكاء الاصطناعي. ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من الأدوات الرقمية، بل تحوّلمعرفي في فلسفة التعليم نحو التفكير النقدي والإبداعي،وربط الهوية المحلية بالتقنيات الحديثة.

الرهان الحقيقي هو على جيل قادر على إعادة صياغة واقعهبلغة عالمية دون أن يفقد جذوره وهنا تبدأ العمارة فياستعادة معناها الإنساني والمعرفي.

من فلسطين المهندسة أمل أبو الهوى، مدير برنامج إحياءالبلدات القديمة في فلسطينمؤسسة التعاون : لم يكنالمهرجان احتفالاً بالعمارة فحسب، بل تجاوزها الى احتفالبالأفكار المعمارية  والقيم المشتركة والحوار البناء، ومن أبرزالجوانب المؤثرة في المهرجان، هو  الحضور الفاعل والكبيرللطلبة، الذين أضفى فضولهم وتفاعلهم ورغبتهم في الفهموالإدراك والتعلّم  طاقة مميزة ساهمت في تعميق الوعيوتعزيز المدارك تجاه قضايا معمارية وإنسانية متعددة. لقدكان من الملهم لي أن أشاهد والمس تفاعلهم وشغفهم ونموهمخلال جلسات المهرجان وختاماً، أعتز بتكريمي بجائزةالتميز للنساء في العمارة لعام 2024، التي أراها تكريماًليس فقط لمسيرتي المهنية، بل أيضاً لكل امرأة فلسطينيةتسعى وسط تحديات صعبة الى حماية تراثها الثقافيوصون هويتها العمرانية. هذه الجائزة تمثل مسؤولية تدفعنيللاستمرار في عملي من أجل إبراز قيمة تراثنا في فلسطينوأثره في حاضرنا ومستقبلنا.

من الأردن مؤسس شركة وائل المصري مخططون ومعماريون، المعمار الدكتور وائل المصري : سعدت بالمشاركةمن خلال محاضرتي بعنوانرؤى للتأصيل والتجديد فيالعمارة العربية التي ألقيت في فندق قلب العالم،وبالمساهمة في الندوة الحوارية حول التراث التي عُقدت فيباحة المدرسة المستنصرية.

وقد كانت هذه الزيارة إلى العراق بعد غيابٍ طويلٍ عنها ذاتطابعٍ خاص بالنسبة لي، إذ أعادتني إلى سنوات الطفولةوالشباب حين كنت أتردّد مع عائلتي على بغداد والبصرةوغيرهما من مدن العراق، فحرّكت في نفسي مشاعر الحنينوأيقظت ذكريات جميلة ما زالت حاضرة في الوجدان، كماأعبّر عن امتناني العميق للحفاوة والكرم اللذين لقيتهما منالإخوة العراقيين، وللجولات الثرية التي اصطحبونا خلالهافي أحياء بغداد العريقة، مثل شارع الرشيد والمتنبي، حيثيتجلى عبق التاريخ وروح المكان. لقد كانت تجربة غنيةومؤثرة تركت في نفسي أثراً عميقاً وإعجاباً كبيراً بما تزخربه بغداد من إرثٍ حضاري وثقافي وإنسانيٍ أصيل.


مشاركة المقال :