ندى سلطان
في عالمٍ تتزاحم فيه الأصوات ويختلطُ فيها الأصيل بالنشاز، وتتشابهُ فيه الأقنعة.. وتختلط فيه النواياوتكثر فيه أصابع الاتهام .. يجب أن يبرز صوت المثقف كضرورةٍ أخلاقية قبل أن يكون ترفاً فكرياً… فالمثقف لا يجب أن يسكن الظل وإنما يقف في وجه الزيف حاملاً كلمته كسلاح.. وشهادته على الزمنكرسالة، لأن العلاقة بين المثقف والسياسة ليست علاقة سلطة أو ولاء، بل علاقة مبنية على أساس الوعيوالمسؤولية.
وفي زمن تُغالَطُ فيه المفاهيم وفق أهواء السلطة أو حسابات الجماهير الافتراضية على الفيسبوك وغيره.. يجب أن تبرز الكلمة الصادقة كفعلٍ من أفعال مقاومة السلوك الخطأ، وذلك لأن فالمثقف في أصلهليس سياسياً متلوناً يرتدي قناع المبادئ للوصول إلى غاياته، ولا هو واعظ لينعزل في برجه العاجيمكتفياً بإطلاق الأحكام دون حركة .. على العكس تماماً فإن (المثقف الحقيقي) كائن متورط لا يمكنهُ أنيقف على الحياد ليقينه أن الحياد خيانة ولأن الكلمة عنده ليست رفاهية تعبير بقدر ما هو عبءٌ أخلاقي لايُمكنه التنازل عنه.
ولذلك فإن دور المثقف المنتقد لا يعني الهدم لأجلِ الهدم بقدر ما يعني محاسبة الأفعال الخاطئة فيالبنية السياسية والثقافية للمجتمع .. ولأن الكلمة مسؤولية فإن المثقف لا يملك أن يقول كل ما يريددون وعيٍ بنتائج ما يقول… فهو ليس صانع ضجيج أو مشكلة وإنما صانع أثر.. (أو هكذا يجب أن يكون) حتى وإن كان التأثير عند السياسي يُقاس بالسلطة فبالمقابل تأثير المثقف يُقاس بالتحول الذي يتركه فيوعي الناس، لكن هذا الدور الذي يلعبه المواطن أو (المثقف الحقيقي) لا يخلو من المخاطر، فالمثقفكثيراً ما يجد نفسه محاصراً بين نارين.. نار السلطة التي تريده تابعاً أو صامتاً من جهة، ونار الجماهير التيتريده مُرضياً دائماً من جهة أخرى ويكتب ما يُشبع مزاجها ويُحابيها وإلا أطلقت عليه نار ألسنتها وأردتهُمنبوذاً …. لكنه ورغم ذلك يجب أن يبقى وفياً لرسالته لأن خيانته للكلمة أخطر من خيانة أي طرف آخر .
إن المسؤولية التي يحملها المثقف لا تتجسد فقط في نص يكتبه لنيل التعليقات والتفاعل، أو رأي يُعبِّرعنه على منصات التواصل فترضى عنه جهة ثقافية يعمل لصالحها أو صديق مقرب منه في السلطة، لأنحضوره كضميرٍ حي داخل الحياة العامة ومشاكلها هو في الأساس للارتقاء بالإنسان ! ولأجل ذلك يصبحانخراط المثقف في الشأن السياسي فعلاً من أفعال الوفاء للذات لا رغبة في السلطة… ولأنني وقبل أنأكون كاتبة أو سياسية، أنحاز لثقافتي ولمثقفي بلدي لذلك أجدني لا أستطيع الصمت تجاه الكثير منالمواقف اليومية.. فالسياسة بالنسبة لي ليست ساحة خصومات أكثر من كونها ميدان خدمة عامة(هذهرؤيتي الشخصية) ومسؤوليتي كمثقفة (أو هكذا أعتبر نفسي) أن أكون عيناً على المجتمع، ولساناً صادقاًوقلباً لا يخاف أن ينبض بالحقيقة حتى ضد التيار السائد الوقح …. ولأنني لا أطمح إلى سلطة بقدرطموحي إلى أثر، على الرغم من أن السلطة طموحٌ مشروع ولإيماني بقدرتنا نحن الشباب على التغييروالتأثير .. ولا أبحث عن منبر بقدر بحثي عن الصدق والحقيقة ونتائجهما على مجتمع متهالك البُنىالاخلاقية مثل العراق ، وجعلها ممكنة وفي متناول اليد… ولذلك أطلب دائماً أن يكون للمثقف مكانه لاكزينة للأنظمة ومطبلاً لها ، بل كمقص رقيب يعدِل الكفة ولا يسمحُ لها أن تميل .. فحاملُ الكلمة كمنيحمل سلاحاً يدافع به عن مُقدساته ويرفض المساس بها ..
في هذا الزمن الذي بدأت تضيع فيه التوجهات والبوصلة، يصبح دورنا نحن المثقفون أكثر إلحاحاً من أيوقتٍ مضى أن نكون حراساً للثقافة وللوعي المجتمعي ضد الزيف والفجأة والتفاهة المُعلنة لأنني موقنةبأن الكلمة ليست عبثاً ولم يكلفنا بها الله بالصدفة ولكنها مسؤولية… والمسؤولية ليست خياراً ورفاهيةلكنها… التزام أخلاقي لا مفر منه.
