كورونا ليس الخطر الاكبر

كورونا ليس الخطر الاكبر

اكثر ما يثير الغضب في المشهد
السياسي العربي، ولبنان نموذجا، حالة
من التبلد العاطفي والسلوكي لدى
القسم الاكبر من الطبقة السياسية.
قوى تتنمر على بعضها البعض،
وتتنازع المناصب والمغانم.. لكنها
تتنازل امام الاجنبي عن اقدس
المقدسات، عن سيادتها وحريتها!
امس كنت في حوار عقيم مع مسؤول
يمني كريم. هو يتحدث من اسطنبول..
ورئيسه سجين غرفتين في فندق
بالرياض.. وحكومته سائحة متجولة لا
تعرف مقرها ولا مستقرها! ومع ذلك لا
يكف عن الحديث عن السيادة واتهام
ابناء بلده بالعمالة!!
قوى ترفض الحوار الداخلي ومنهج البراغماتية السياسية، ومبدأ
ما لا يدرك كله لا يترك جله، القاعدة الاصولية التي يلجأ اليها
الفقهاء لحل معضات الحكم الديني والحال والحرام.. ثم تنصاع
لقرار وزير او سفير او اقل من ذلك من جهة اجنبية..
حالة غريبة اصابت مجتمعنا السياسي، عطلت جوهر آلياته
الديمقراطية واسس العيش المشترك والتعاون على البر
والتقوى..
السلطة باتت محصورة في عدد قليل من القوى السياسية لا
يتعدى عدد اصابع اليدين في اقصى الحالات. واذا ما تفحصنا
الوضع بدقة اكبر نجد الدائرة اضيق من ذلك بكثير، اذ يتحكم
بالقرار عدد محدود جدا من الزعماء الاقوياء، الحائزين على
دعم طوائفهم، في بلد يكاد يختنق بنظامه الطائفي.
ومع ذلك لا يستطيع هؤلاء الاتفاق والتوافق على تقاسم جبنة
الحكم في ما بينهم، وممارسة لعبة السلطة والمعارضة، وتبادل
الادوار وانتقال السلطة بالاساليب السلمية والديمقراطية..
فكيف نفهم ذلك؟
كيف نفهم حالة الاستلاب التي تتحكم بهم، وجدران الشك
وعدم الثقة التي تمنع تواصلهم وتفاهمهم؟
كل منهم يتهم الاخرين بالولاء للخارج.. ويشكو من هذا الولاء،
باعتباره معيقا للوحدة والمصالح الوطنية! بل هم يبررون
عجزهم وقصورهم بهذا الاتهام وبالتدخات الخارجية. الا انهم
في سلوكهم اليومي يبدون في حالة انتظار لتدخل جهة ما،
ويرجو كل منهم ان يكون لمصلحته للاستقواء به ضد شركائهم
في الوطن.. وهم يدركون، او لا يدركون، ان لا احد يعمل من
اجلهم ولا يقدم لهم خدماته مجانا.. بل ان كل تدخل خارجي
انتقاص من السيادة الوطنية. وشهادة سوء سلوك للقوى
السياسية.
ولا يحتاج الوضع في لبنان اليوم الى توصيف وتشريح. فهو
مأساوي ومرعب. جائحة تتفشى دون اي قيود او امكانية للسيطرة
عليها، واوضاع معيشية مزرية للغالبية العظمى من المواطنين،
ومخاطر امنية تبدأ من الانفات الداخلي الى الارهاب المتربص،
ولا تنتهي عند العدوان الاسرائيلي المستمر بأشكال مختلفة من
انتهاك السيادة والتهديد بالقتل والتدمير.
ولا نريد ان ندخل في القراءة السياسية لهذا المشهد الكارثي.
فالقراءات متعددة، وقد اسهبت وسائل الاعام في تظهير
كل مخزون النكد السياسي، وبراعة السفسطائيين في التبرير
والتفسير.. وهي جعجعة من غير طحين، وجدل عقيم، لم يبدل
قناعة احد ولم يحسن ظروف البلد..
لذا يبقى سؤال بسيط، قاله مواطن بريء.. بريء من لوثة
السياسة والسياسيين، واصحاب العقائد والعقد والعقود: لماذا
لا تتشكل حكومة لتسيير شؤون الناس اليومية، با سياسة ولا
استراتيجات ولا خطط مستقبلية؟ ابقوا هذه كلها لكم وتحاوروا،
او تجادلوا حولها ما شئتم والى ان يقضي الله امرا كان مفعولا..
لماذا يترك البلد سائبا للناهبين، صغارهم قبل كبارهم؟ ولماذا
الامعان في ضرب الوحدة الوطنية ودفع الناس الى حمى
طوائفهم ومناطقهم المغلقة واحزابهم؟
نعم هناك خلافات سياسية عميقة بين الاطراف اللبنانيين،
تتداخل فيها الطموحات الشخصية والانشغالات الحزبية
بالهواجس الطائفية والمذهبية. وصحيح ايضا ان لبنان جزء
من هذه المنطقة التي تشهد غليانا خطيرا، وتستعد لمرحلة
من التحولات المفصلية والتاريخية. ولا يخفى ان هناك صراعات
اقليمية على النفوذ، ودولية على الهيمنة والسيطرة على موارد
الطاقة وطرق الامداد للعالم اجمع..
كل ذلك صحيح ومعلوم.. ومثله الانقسامات الداخلية بين
المحاور والاصطفافات الاقليمية والدولية..
لكن: ما حاجة هذه الصراعات الكبرى لمواطن يقف ذليا امام
المصرف ليستجدي جزءا مما ادخره لليوم الاسود؟ وكيف تتعزز
مواقفنا السياسية في المعارك الكبرى اذا ما كان مواطنونا
عاجزين عن تأمين لقمة العيش او تعليم ابنائهم او حرث
اراضيهم؟ وكيف يعتبر احدكم ان تأخير معامات الناس وارباك
المستشفيات وقطع الطرقات نصرا على طرف اخر؟
لقد سئمنا من مطالبة المسؤولين بالركون الى الحوار والارتقاء
الى المستوى الحضاري في الحكم وممارسة السلطة، ولم يعد
امامنا الى مطالبتهم بفك الارتباط بين صراعاتهم السياسية
المشروعة وغير المشروعة، وحياة الناس وحقهم الانساني بالعيش
الكريم.. والكف عن الرهان او الارتهان للخارج الذي لن يقدم لنا
الهبات والحلول الميسرة، بل سيستفيد من ضعفنا وانقساماتنا
لتحقيق اهدافه، ومصالحه حتى لو كانت على حساب مصالحنا.
ان نختلف ليس عيبا، بل العيب الا نجد وسيلة لحل الخاف او
المساومة على حلول وسط اذا ما تعذرت الانتصارات الحاسمة!
وفي كل الحالات ليس مقبولا ان يتحول الوطن والمواطنون الى
رهائن للابتزاز او وقود للمعارك الوهمية.
لقد بات لدى المواطنين شعور ان ما يعانونه بسبب الخلافات
السياسية اشد خطرا وايلاما وتهديدا لحياتهم من الوباء الذي
يتفشى بينهم كالنار في الهشيم.
فلمن نتوجه لفايروس كورونا ام للسياسيين طلبا للرحمة
وتحكيم العقل؟

(Visited 2 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *