العجلة للجبناء

محمد الكلابي

في عالم يختصر كل شيء، ويقيس المعنى بقدرة الوصول الفوري، تأتي مسيرة الأربعين كحدث يقلب هذه القاعدة رأساً على عقب. ملايين يتركون أسرع وسائل النقل ويتعمدون أبطأ وسيلة ممكنة أقدامهم؛ كأنهم يعلنون أن العجلة للجبناء، وأن من يختصر الطريق يختصر المعنى. ليس لأنهم عاجزون عن الركوب، بل لأن الطريق عندهم ليس عقبة بين نقطتين، بل فضاء للمعنى وتجربة وجودية تُعاش لحظة بلحظة.

المنطق الحديث يعلمنا أن الزمن المهدور خطأ، وأن الجهد الزائد خلل في الكفاءة، لكن السير نحو كربلاء ينسف هذه الفرضية. هنا، المشقة ليست عائقاً بل هي الدليل على الصدق، والتعب ليس ثمناً للوصول، بل جزء من الغاية نفسها. وكما قال نيتشه ( ما يصنع السعادة هو طريق شاق نحو قمة تستحق العناء) والقمة هنا لا تُقاس بارتفاعها، بل بعمق رمزها.

في هذا المسار الطويل الزمن لا يُستهلك بل يُستعاد بدلاً من أن يكون عدواً نطارده، يصبح رفيقاً نشاركه كل خطوة. المسافة لا تُلغى بزر أو محرك، بل تُستهلك ببطء مدروس كعمل فني يتشكل من آلاف الإيماءات الصغيرة مصافحة غريب، دعوة لتناول طعام، كلمة مواساة، نظرة احترام. كل توقف كل جرعة ماء، كل بثرة في القدم تتحول إلى شاهد على أن البطء، حين يكون اختياراً، قد يكون أرقى أشكال التقدم.

هذه العودة المتعمدة إلى البطء ليست حنيناً رومانسياً إلى الماضي، بل مقاومة وجودية لفلسفة “الآن” التي تحكم العالم المعاصر. ففي ثقافة السرعة، يُختزل الطريق إلى فراغ بين نقطتين؛ أما هنا، فالفراغ هو الحدث، والمشهد، والمغزى. إنه الزمن حين يتحرر من عجلة الربح والإنتاج ليصبح منصة للقيم الكرم بلا مقابل، الخدمة بلا انتظار الشكر، التضامن بلا وسيط.

والأكثر إدهاشاً أن هذا التباطؤ الطوعي يصنع مساواة نادرة ، غني وفقير، صاحب نفوذ وبسيط الحال، يسيرون على الإيقاع نفسه، يختبرون حدود الجسد والإرادة على الأرض ذاتها، وتذوب بينهم الفوارق التي تعجز القوانين عن محوها. كأن الطريق هنا يكتب دستوراً أخلاقياً لا تفرضه سلطة، بل يتبناه الجميع بفعل التجربة المشتركة.

لكن هذا التلاقي في الإيقاع لا يقتصر على المساواة بين الناس، بل يمتد إلى مصالحة نادرة بين الإنسان والعالم من حوله. في المسير، تتباطأ الحواس مع الخطى تُستعاد أصوات الريح، ورائحة التراب الحار تحت الشمس، وملمس الطريق المتنوع بين تراب وأحجار وإسفلت كأن الجسد، في بطئه، يعقد هدنة مع الطبيعة فينصت إليها بدل أن يمر بها مرور العابر المستعجل. هذه المصالحة، في جوهرها ليست ترفاً حسياً بل جزءاً من إعادة تشكيل الذات لأن من يتعلم الإصغاء للطريق يتعلم الإصغاء للناس… وللحياة نفسها.

بهذا المعنى، المسير ليس مجرد رحلة نحو الحسين، بل احتجاج عملي على شكل الحياة الذي فُرض علينا. ملايين يتحركون في الاتجاه المعاكس لما صُمم العالم من أجله لا لتوفير الوقت، بل لتمديده؛ لا لتجاوز المسافة، بل لاجتيازها كاملة حتى آخر وجع في القدم. وفي كل خطوة، يعلنون بلا خطب أو بيانات أن الزمن لا يُمتلك إلا حين نختار أن نمشي فيه، وأن الوصول لا يكتمل إلا حين يصبح الطريق نفسه درساً.

وهنا تكمن المفارقة المدهشة ، العالم الحديث يعدنا بالوصول الأسرع، لكنه يسلبنا الطريق، فيسرق منا المعنى من حيث لا نشعر. أما مسيرة الأربعين، فهي تعيد إلينا الطريق وتذكّرنا بأن البطء ليس تأخراً، بل مقاومة ضد زمن يركض نحو النسيان. إنها تقول للعالم، بهدوء لا يخلو من التحدي، لسنا على عجل… نحن نصنع الزمن ونحن نمشي.

 

محمد الكلابي


مشاركة المقال :