سوبرمان مكتئب

محمد الكلابي

في عالم لم يعد يعترف بالآلهة، نشأت ديانة بديلة: عبادة الإنسان المتفوّق. لم نعد نبحث عن الخلاص في السماء، بل نلاحقه في جداول الإنتاج وخطط التطوير. صار التقدّم واجباً أخلاقيّاً، والركود جريمةً ضد الذات. كلّ لحظةٍ تُستثمر، وكلّ شعورٍ يُستغل. لم يُسمح لأحدٍ أن يكون كما هو. يجب أن تكون أكثر، وأعلى، وأذكى، وألّا تتوقّف.

حين صاغ نيتشه مفهوم الإنسان الأعلى، لم يكن يقترح برنامجاً لتحسين الذات، بل كان يهدم قيماً موروثةً ويدعو إلى تجاوزها. الإنسان الأعلى ليس بطلاً جماهيريّاً، بل كائناً يخلق قِيَمه الخاصة ويرفض المعنى الجاهز. بعد “موت الإله”، لم تعد هناك سلطةٌ تُخبر الإنسان من يكون. ومن هذا الفراغ، أراد نيتشه أن يولد الإنسان الأعلى — لا كغايةٍ، بل كإمكانيّةٍ.

لكن الفكرة أُفرغت من بُعدها الفلسفي، واختُزلت إلى شعار تطويرٍ ذاتيّ. أصبحت أمراً ضمنيّاً: تجاوز نفسك، أو قصّرتَ في تحقيق إمكاناتك. تغلغلت ثقافة الإنجاز في كلّ شيء، فابتلعت المفهوم وصاغته بلغة السوق. تسلّل إلى الكتب، والدورات، والمحتوى الرقميّ المهووس بالنموّ المستمر.

ففي مجتمعٍ يحكمه الإنتاج — كما قال إريك فروم — يصبح عدم الإنجاز دليلاً على عدم الوجود.

وهكذا، تمّ استبدال القلق الوجوديّ العميق بسلوكٍ استعراضيٍّ لا يتوقّف، يُقاس بعدد الإنجازات والمتابعين.

تدريجيّاً، نشأت شخصيّةٌ جديدة — لا وجود لها في فكر نيتشه — تُحسّن نفسها باستمرار، لا حبّاً بالحياة، بل خوفاً من التأخّر عن “نسختها الأفضل”. تدير اللحظة كمشروع، وتحوّل الذات إلى “علامةٍ شخصيّةٍ”. لم تعد تعيش، بل تؤدّي. تتحوّل الحياة إلى سيركٍ دائم، والذات إلى منصّةِ عرضٍ لا تتوقّف.

هذه ليست حرّيّةً، بل عبوديّةً مقنّعةً. الذات لم تعد مأوى الإنسان، بل سجنه. يراقب نفسه من الداخل، ويعذّبها باسم النموّ. لا جهة خارجيّة تُعاقبه، لكنّه يشعر بأنّه تحت رقابةٍ دائمةٍ من ذاته التي لم يُحقّقها بعد. الرقابة صارت داخليّة، والألم مُغلّفٌ بلغةٍ تحفيزيّةٍ.

وهذا ما يمكن تسميته: “السوبرمان المكتئب”. كائنٌ يُمثّل التفوّق بينما يعيش الانهيار. يبتسم ويُلهم ويتكلّم عن التوازن، لكنّه لا ينام جيّداً، ولا يصمت أبداً. يرتدي قناع القوّة، لكنّه ينهار داخليّاً كلّما توقّف لحظةً عن الأداء. يعيش كمن يُسابق ظلّه، وكلّما ظنّ أنّه اقترب، ابتعد الهدف أكثر. إنّه لا يسكن ذاته، بل يُطاردها.

ما هو الثمن؟ نخسر الزمن، والعفويّة، والضعف الإنسانيّ المشروع. نخسر حقّنا في أن نكون ناقصين دون تبرير. بل نخسر حتّى معنى “القوّة” حين تتحوّل إلى واجبٍ دائم. نُنجز ذواتنا… فنخسرها. نعيش لهدفٍ لم نحدّده نحن، بل صاغته ثقافةُ الأداء والتفوّق المستمرّ.

نيتشه أراد تحرير الإنسان من القيم الخانقة. لكنّنا أعدنا إنتاجها بلغةٍ ناعمةٍ، أكثر تغلغلاً. فصارت الذات سجّاناً، والتفوّق قضباناً، والإنجاز سوطاً. المفارقة أنّ نيتشه نفسه لم يكن إنساناً أعلى، بل شخصاً هشّاً، متعباً، لم يحتمل الحياة في نهايتها. لم يكن يستعرض، بل يُصارع.

فهل ما زالت فكرته صالحةً؟ أم أنّ الزمن تجاوزها؟ أم أنّ علينا أن نُكمل الطريق، لا بالسحق، بل بالتراجع خطوةً إلى الوراء؟

البديل ليس الخمول، بل التحرّر من الهوس بالصعود. ليس رفض الذات، بل قبولها بتعثّرها وتردّدها. أن نُعيد تعريف “القوّة” كقدرةٍ على الاحتمال، لا كعرضٍ دائمٍ لها. أن نعترف بأنّ البطء، والانكسار، والتعب، ليست عيوباً، بل دلائل على أنّنا أحياء.

الإنسان الكامل ليس من بلغ القمّة، بل من تجرّأ على التوقّف قبل أن ينهار.

ربّما لا نحتاج أن نصبح “أعلى”، بل أن نكفّ عن جلد أنفسنا كي نكون كذلك.

ربّما نحتاج إلى إنسانٍ جديد، لا خارقاً ولا مثاليّاً، بل صادقاً، هشّاً، بطيئاً أحياناً، ولا يرى في ذلك عيباً.

إنسانٌ لا يُحوّل ذاته إلى منتج، بل يعيشها كحقيقةٍ. إنسانٌ لا يسعى للتميّز كلّ يوم، بل فقط… للوجود.

الإنسان لا يحتاج أن يكون خارقاً، بل فقط أن يُسمح له أن يكون… إنساناً.

وربّما — وربّما فقط — لو عاش نيتشه بيننا، لكان أوّل من انتحر تحت ضغط “الإنجاز الشخصيّ المستمرّ”.


مشاركة المقال :