محمد الكلابي
في العتمة التي يُطفئ فيها الإنسان اسمه، وتستحيل اللغة كائناً يتعثر في ضباب المعنى، لا يعود الشعر تعبيراً، بل يصبح نجاة. ليس من العالم، بل من الاندثار الصامت داخله. هكذا تبدأ قراءة “البيوت تنادي والطريق أيضا” للشاعر التونسي محمد العربي — لا من عنوانها، بل من هديرها الداخلي، من ذلك الصوت الذي لا يُكتب بالحبر بل بالحضور المرتبك، بالخذلان الساكن في الأشياء، بالحنين المترنّح عند عتبات البيوت القديمة.
هذه ليست مجموعة شعرية بل خريطة شعورية لنفس تتهدم وتتشكل من جديد داخل كل نص. كل قصيدة في هذه المجموعة ليست لوحة.بل شقّاً في جدار، صرخة مكبوتة، أو صدى لصوت لم يُنطق في حينه. لا تسرد هذه النصوص حكاية، بل تكشف بقايا ذات تبحث عن مأوى، ولا تجده إلا بين السطور. إنها نصوص تُكتب لا لتُفهم، بل لتُسكن، لتُرتجف معها، وكأنك لا تقرأ شعراً بل تعبر نفقاً في ذاكرة لم تعد لك.
“كنتُ بيتاً لا يحتاج إلى أبواب أو نوافذ… حين تسيل دمعةٌ… يتحول أشلاء وظلالاً باهتة” —
بهذه الجملة، يعلن محمد العربي عن ماهية البيت ككائنٍ وجودي هشّ. لا بوصفه مكاناً مادياً بل بوصفه استعارة عن الذات، عن الروح، عن الحضور.
في علم النفس التحليلي عند كارل يونغ، يشير البيت إلى البنية النفسية العميقة للذات: الغرف تمثل جوانب اللاوعي، النوافذ تمثل الانفتاح على العالم، والأبواب ترمز إلى الحدود الشخصية. لكن في هذا النص، لا نجد أبواباً ولا نوافذ، لأن الذات ذاتها فقدت حدودها؛ تحولت إلى أطلال مشاعية، لا تعرف كيف تُغلق على نفسها، ولا كيف تُفتح.
يكتب العربي من منطقة الهشاشة المطلقة. الذات هنا ليست ذاتاً متماسكة، بل شظايا تتنازعها التكرارات، والذكريات، والأصوات الغائبة. حين يقول: “في داخلي رجالٌ كثيرون… وامرأة وحيدة تكتب قصائد حزينة عن الليل”، فإنه لا يقدم اعترافاً، بل بنية متعددة الأصوات، تتناغم مع مفهوم باختين عن تعدد الأصوات داخل النص، لكن دون احتفال تناغمي، بل في عزاء دائم. هذه الذات ليست مسرحاً للأدوار، بل ساحة معركة بين ما لم يُقَل، وما لن يُقال.
حين يكتب: “أكثر من ثلاثين عاماً أمشي في اتجاه البيت ولا أصل… الطفل الذي كنته يمشي في اتجاهي ولا يصل”، لا يصف طريقاً مادياً بل تعبيراً وجودياً عن هوّة داخلية تتسع بين ما كنّاه وما صرنا إليه. هذا التيه ليس ناتجاً عن ضياع الطريق، بل عن انفصام داخلي في إدراك الذات لذاتها. فالطفل الذي لم يصل — ولا حتى الشاعر البالغ استطاع الوصول إليه — هو انعكاس لذات انكسرت، ولم تعد تمتلك وحدة داخلية تؤهلها لإعادة التعرف على نفسها. وكأن العربي هنا يقول: ما من أحد يسبق أحداً، بل كل ما فينا يمشي متأخراً عن كل ما فينا. وكلما اقتربنا من بيتنا، غادرنا بيتنا الآخر. محمد العربي هنا لا يبني سردية عن الأمل، بل عن فقدانه كفطرة. إنه لا يسائل الزمن، بل يسائل إمكانية الزمن أصلاً.
في قصيدة “ثم قلت”، يظهر الله كحضورٍ غامض في الخلفية، أشبه بإيقاع بعيد لا يبلغ الأذن. “ناديتُ الله… لكنه تجاهلني… أرسل برقاً إلى شجرة التين فقسمها إلى نصفين” —
لحظةٌ من العزلة المطلقة، لا يتكلم فيها الشاعر إلى الله، بل يصطدم بفراغ كونيٍّ لا يتجاوب. وليس ذلك تخلياً إلهياً بالمعنى اللاهوتي، بل صمتاً بنيوياً في الكون ذاته، حيث تتحدث الأشياء دون أن تصغي، وتبعث الإشارات دون أن تنتظر جواباً. الله هنا ليس متفرجاً ولا قاسياً، بل أشبه بظل لا يُمس، قوة غير شخصية، تظلّ حاضرة بوصفها غياباً مُركزاً، وكأن الشاعر يكتب ضد صمت العالم لا بحثاً عن خلاص، بل كي يخلق في الفراغ نبرة شخصية — نبرة القصيدة.
الله في هذه المجموعة لا يُجسّد كملاذً بل كصمت كثيف، كثقل لا يُحتمل، كمعنى بعيد لا يصل إليه الصوت.
هذه ليست قصائد حبّ، بل قصائد عن ما تبقى بعد أن انتهى الحب ولم يُدفن.
في قصيدة “حتى في عناقنا الأخير”، يُظهر العلاقة بين العاشقين بوصفها جغرافيا مفخخة: “نحن ضفتيه… لم يعبر سريرنا أي نهر”. كل تقارب هنا يحمل بذور التباعد. العلاقات لا تفشل، بل تتآكل مثل قلاع رملية تُبنى في وجه المد. اللاوعي العاطفي للشخصيات في هذه المجموعة مأهول بالخيبة، لكن ليس بوصفها مفاجأة. بل باعتبارها مصيراً متوقعاً، كأن الحنين أصبح آلية دفاع. لا شعوراً صادقاً.
وفي واحدة من أكثر اللحظات تألقاً، يكتب:
“لم يعد من نزهته القصيرة… من يعيد رجلا خرج من امرأة؟ من يعيد امرأة خرجت من رجل؟”.
هذا ليس سؤالاً عن الفقد، بل عن الجوهر، عن الفقد الكينوني، الذي يتجاوز الجسد ليلامس الذاكرة، ويتجاوز الذكرى ليلامس الهوية. الذات هنا تُعرّف بما لم يعد فيها، كأنها تستعير ملامحها من الغياب ذاته.
ربما أكثر ما يميز “البيوت تنادي والطريق أيضاً” هو القدرة المذهلة على تثبيت الشعور قبل أن يهرب.
في قصيدة “أفكر في السمفونيات”، يتساءل الشاعر: “كيف ظلت البيوت التي لا تسكنها الموسيقى واقفة؟”. إنه سؤال وجودي بامتياز: ما الذي يُبقي الإنسان حيّاً حين تُنزع منه الموسيقى؟ الجمال؟ الحنان؟
هو هنا لا يعاين الخراب، بل يحدق في صلابته المريبة. كيف لم يسقط العالم؟ كيف ظل واقفاً؟ ليس لأنه قوي، بل لأن الخراب فيه صار عادة، لا استثناء.
وفي قصيدة “الذي لم يقرأ سيرة الضوء… عاش أعمى، وظن نفسه برقاً”
نحن أمام لحظة إدراك مزلزلة، حيث الادعاء يصبح لعنة. الشاعر هنا يعري الذات المتوهمة، التي تظن أنها تُنير، بينما هي لا ترى أصلاً. هذا تقاطعٌ واضح مع أفكار نيتشه عن “الإنسان الذي يعجز عن تحمل الحقيقة فيخترع وهماً يُسميه نوراً”.
البيت، الطريق، المرأة، الله، الحنين، الضوء، الغيوم، الظلال، النوافذ، الأصابع، الكؤوس، كلها ليست مجرد رموز متكررة، بل وحدات بنائية
في المتاهة النفسية التي يصوغها العربي. القصيدة عنده ليست نتاج وعي صاف، بل انبثاقاً من لاوعي جماعيّ فرديّ متشظٍ، مثل حلم يُستعاد كل ليلة، ويتغير وجهه دون أن يتغير صوته.
الكتابة هنا ليست مقاومة للموت، بل نوعاً من الموت الذي يسمح لنا أن نحيا. ليست تعبيراً عن الذات، بل طقساً لاستحضارها، كما يستحضر كاهن روحاً في معبد متهدم. حين يقول: “حين نفترق، ترسمين دوائر… وأنا أرسم طريقاً”،
فإن كل ما في هذا السطر يفتح خريطة وجودية معقدة: الدوائر هنا ليست فقط رمزاً للتكرار، بل للتيه. للطواف حول ما لا يُبلغ، وللدخول المتكرر في الفقد ذاته، لا للخروج منه.
تتكرر مفردة “الظل” في أكثر من نص، وكذلك “النافذة” و”العتمة” و”الصوت”. وهذا التكرار لا يُضعف النصوص بل يقويها، لأنه ليس استنساخاً، بل انتقالاً من طبقة إلى أخرى. كما في التحليل النفسي، حين نُعيد الحلم مرة بعد مرة، لأن العقل لم ينته منه بعد. كل قصيدة هي تكرار الحلم، لكن من زاوية جديدة . بتأويل جديد، بإضاءة أخرى. التكرار هنا ليس لغوياً، بل نفسياً: وسيلة لاستدراج الحقيقة من عمق اللاوعي، ولحفر قنوات داخلية تجعل من كل نص طقساً للتطهير.
ما يُدهشك في النهاية، أن هذه القصائد لا تريد أن تقول شيئاً محدداً، بل أن تجعلك تشعر. وكأن محمد العربي لا يثق في اللغة، لكنه يثق في رعشتها. لا يثق في البيان، لكنه يثق في رجفة الجملة قبل أن تكتمل. لا يمنحك خريطة، بل يُقذف بك وسط الغابة. لا يُريك الطريق، بل يُريك الوحوش التي تسكنك.
ثم، فجأة، ودون مقدمات، تدرك أن القصائد لم تكن تُحكى لك. بل كنت تُقرأ خلالها. أنت البيت، وأنت الطريق، وأنت الذي مشى ثلاثين عاماً ولم يصل. وما الكتاب إلا مرآةٌ، والمجموعة كلها صدى لانكسار داخلك لم تجرؤ يوماً على تسميته.
تغلق الكتاب، فلا يغلق.
تنظر حولك، ولا ترى شيئاً كما كان.
كأن القصائد اختبأت في أثاث الغرفة.
كأن النافذة ليست نافذة.
كأنك أنت، لم تعد أنت.
