“الإيمان بين الندرة والكثرة

محمد عبد الجبار الشبوط

تتكرر في القرآن الكريم عبارات من قبيل: “ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، في أكثر من موضع، مما يثيرتساؤلًا جوهريًا: هل هذه العبارة تعكس حكمًا قدريًا أبديًا بأن الغالبية البشرية ستبقى في حالة كفر أوإنكار؟ أم أنها تمثّل توصيفًا لحالة اجتماعيةنفسية تاريخية، قابلة للتغير والتحول في ظل شروط معينة؟

هذا المقال يحاول تفكيك هذا المعنى، وربطه بآيات أخرى تبشّر بظهور الدين وانتشاره، في ضوء فهمقرآنيحضاري متكامل.

أولًا: دلالة العبارة في سياقها القرآني

وردت عبارةولكن أكثر الناس لا يؤمنونفي مواضع عدّة، منها قوله تعالى:

وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون” (يوسف: 106)

وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين” (يوسف: 103)

وترد غالبًا بعد استعراض دلائل التوحيد أو قصص الأنبياء أو عرض سنن التاريخ. ما يوحي بأنها تعبّر عنحالة غالبة في واقع بشري معيّن، وليست قاعدة مطلقة لا تتغير.

القرآن لا يصرّح أبدًا بأن الكفر قدر محتوم على الناس، بل يبيّن أن الاستجابة للحق محدودة حينما تهيمنالبيئة الفاسدة، أو تتصادم الدعوة مع المصالح القائمة.

ثانيًا: الكثرة ليست مقياسًا للحقيقة

القرآن ذاته يحذّر من الانبهار بالكثرة:

وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله” (الأنعام: 116)

وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين” (الأعراف: 102)

لكن ذلك لا يعني أن الكثرة بحد ذاتها مذمومة، بل أن الكثرة المنفلتة من قيم الحق هي ما يُرفض. فلوتحققت شروط الوعي والعدالة والبيئة السليمة، فإن الكثرة قد تكون مؤمنة، ويصبح الإيمان ظاهرةجماعية، لا استثناءً نخبويًا.

ثالثًا: آيات التمكين وظهور الدين

إذا اعتبرنا أن أكثر الناس لا يؤمنون حكمٌ سرمدي مغلق، سنقع في تناقض مع آيات صريحة تبشّر بانتشارالدين، منها:

هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون” (الصف: 9)

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض” (النور: 55)

يدخلون في دين الله أفواجًا” (النصر: 2)

هذه الآيات تؤسس لأفق مفتوح، مفاده أن الدين سيظهر ويهيمن، لا بالقهر، بل بتحقّق شروط الاستخلافوالقبول الحضاري.

الإيمان هنا يتحول من استجابة فردية نادرة إلى مشروع جمعي جماهيري حين تتبدل الشروطالموضوعية.

رابعًا: الإيمان ومقاومة المصالح

القرآن يكشف في مواضع عدة أن رفض الإيمان ليس دائمًا ناتجًا عن الجهل، بل غالبًا عن تضارب المصالحمع ما تطرحه الرسالة الإلهية. قال تعالى:

يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون” (البقرة: 146)

فكثير من الزعامات القبلية أو الدينية أو الاقتصادية ترى في الدين خطرًا على امتيازاتها، ولهذا تعارضهبشراسة رغم وضوح دلائله.

وهذا يعني أنقلة الإيمانليست دالة على ضعف الحجة، بل على قوة مقاومة الباطل حين تتقاطعالرسالة مع مصالحه.

خامسًا: من منظور المركب الحضاري

وفق نظرية المركب الحضاري التي ترى أن النهوض البشري مشروط بتكامل خمسة عناصر (الإنسان،الأرض، الزمن، العلم، العمل)، فإن الإيمان لا يمكن أن ينتشر في فراغ، بل يحتاج إلى بيئة حاضنة حضارية،فيها:

إنسان ناضج حرّ الوعي.

أرض مستقرة وعادلة.

زمن تراكمي للتطور.

علم يكشف السنن ويفسح للفهم.

عمل يترجم القيم إلى واقع.

حين تتحقق هذه الشروط، يصبح من الممكن أن تتغيّر المعادلة من:

ولكن أكثر الناس لا يؤمنون

إلى:

يدخلون في دين الله أفواجًا

واذن، ليست عبارةولكن أكثر الناس لا يؤمنوننفيًا لقدرة الناس على الإيمان، بل توصيفًا لمآلاتمجتمعات تهيمن عليها الأهواء والمصالح والجهل.

أما المجتمعات التي تعيد بناء وعيها على أسس العلم والقيم والعمل، فهي قادرة على أن تتحول إلىبيئات إيمانية فاعلة، تؤسس لظهور الدين وتمكين الحق، كما وعدت آيات كثيرة من القرآن.

وهكذا، فالإيمان في القرآن ليس ظاهرة استثنائية قدرية، بل مشروع تحوّل اجتماعيحضاري، تُحدّدهالسنن، وتُنجزه الإرادة الواعية.


مشاركة المقال :