محمد عبد الجبار الشبوط
حينما تتقابل قوى الحق والباطل وجهاً لوجه، لا يبقى الحياد خياراً أخلاقياً أو إنسانياً. إن الحياد في هذهاللحظة لا يعني الوقوف خارج الصراع فحسب، بل قد يعني بشكل غير مباشر ترجيح كفة الباطل، أو علىالأقل، التخلي عن مسؤولية الانحياز إلى ما يجب أن يُنصر.
في الفلسفات النسبية السائدة اليوم، يتم تصوير القيم والمواقف وكأنها قابلة للتفاوض والتأويل، بحيثيُصبح كل طرف “على حق من وجهة نظره”. لكن المقولة التي نعالجها هنا تنتمي إلى منظومة أخلاقيةووجودية ترى أن هناك حقاً موضوعياً وباطلاً موضوعياً، وأن الإنسان مخلوق مكلّف لا مجرد كائن متفرج.
في معارك تتصل بالكرامة الإنسانية، أو العدالة، أو حرية الشعوب، أو مقاومة الظلم، يصبح الحياد انحيازًاضمنيًا إلى الظالم، إذ أن الامتناع عن دعم المظلوم يمنح الطاغية فرصة أكبر للهيمنة.
الحياد في معارك الوجود هو ترف لا يملكه أصحاب الضمير. حين تتقابل منظومة حضارية تدعو إلىالحرية والكرامة والعدالة، مع منظومة استعباد وقهر وتسلط، فإن من اختار الوقوف في المنتصف، قديكون أقرب إلى من أعاق التغيير لا إلى من دعا إليه.
وفي ضوء الفهم الحضاري للقرآن، نرى أن الله تعالى لا يرضى عن الذين “يستضعفون” أنفسهمبتخاذلهم، كما ورد في الآية:
“إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ” (النساء: 97).
فقد اعتبر القرآن الصمت والتقاعس عن نصرة الحق ظلمًا للنفس.
الانحياز إلى الحق لا يعني فقط رفض الباطل، بل يعني العمل، والتضحية، والدفاع عن القيم العليا التيتشكل نواة الحضارة: الحرية، العدالة، الكرامة، الرحمة، والعقلانية. وهي قيم لا تقوم إلا بمن يسيرون فيطريقها، لا بمن يقفون على الرصيف يتفرجون.
وقد جسّد الأنبياء والرسل هذا الموقف العملي في التاريخ، فلم يكونوا “مراقبين محايدين”، بل كانوا“فاعلين مغيرين”، يواجهون الباطل في صوره السياسية والاجتماعية والعقائدية، ويتحمّلون تبعات ذلك.
في عصرنا الراهن، حيث تتكاثر الأزمات، وتُخاض معارك كبرى باسم القيم أو ضدها، يصبح الحياد موقفًاخطيرًا. من لا يقف اليوم مع الإنسان، مع المقهور، مع الشعوب التي تناضل من أجل تقرير مصيرها، يتركالباطل يتمدد بلا مقاومة.
حين نؤمن أن للوجود معنى، وللحق حضور، وللأخلاق دور، فإننا لا نملك خيار الحياد. نحن جزء منالمعركة بين الخير والشر، بين الهدى والضلال، بين الحضارة والانحطاط. ومن لا ينحز إلى الحق،سيساهم، بوعي أو بدونه، في ترسيخ الباطل.
لذلك، فإن الانحياز إلى الحق في لحظات الحسم ليس مجرد موقف، بل هو معيار إنساني وحضاري يحكمعلى المجتمعات والأفراد معًا.
