لمش١١٤ الجزء ٣٤ / د. احمد مشتت

د. أحمد مشتت

بعد أن استوعب جنود المفرزة الطبية خبرَ موافقة الإيرانيين على إنهاء الحرب، بدأ كلٌّمنهم يحلم بالسلام. كان هذا حلماً مستحيلاً قبل أيام، ولم يجرؤ أيٌّ منهم على المساس بهأو الاقتراب منه.

تخيّل كلٌّ منهم ما سيفعل حين يستبدل القمصانَ الملوّنةَ ببدلة الخاكي التي ظنّوها أبديةً،وقد التصقت بأجسادهم. هل سينسون رائحة البارود مثلاً؟ هل سيتمشّون مع أصدقائهمعلى ضفاف دجلة وأيديهم في جيوبٍ آمنة؟ هل سينامون دون أن يتحسّسوا أطرافهم، إنكانت لا تزال في أجسادهم المتعبة؟

ظلّ شكر، الذي كان الناطق الأول لإعلان نهاية الحرب، منتشياً، وكان يرى عبر أشجار اللوزالتي ترتفع عالية في حوض بنجوين، أمَّهُ تصلّي وترفع يدين مخذولتين إلى سماءٍ أصغتأخيراً لنحيبها، وهي تنتظر عودته سالماً.

عند المساء، جاءت أخبار أخرى من قيادة الوحدة تؤكّد نهاية الحرب. سيعود اللواء إلىمقرّه الدائم في البصرة، وستبدأ الحركة صباح اليوم التالي.

بدأ خليل، خبير التحركات الحربية في مفرزة الطبابة، بوضع مخطّط الحركة، وأعطى لكلفرد من جنود المفرزة الطبية دوره. لم يكن لديهم غير أغطيتهم وصناديق الأدوية وخيمتينمن البؤس.

قال باسم في لحظة وعي نادرة:

ثمان سنين من العمر راحت هدر.

أشعل له كريم سيجارة تقديراً لاكتشافه الفذ، فيما ظلّ محمد محسن في معركةٍ صامتة معمحرّك سيارة الإسعاف المفتوح، حيث أن عطلاً ما بدأ يقلقه.

اقترح خليل عليه أن يطلب مساعدة عبود، طباخ اللواء، الذي كان يمتلك كراجاً لتصليحالسيارات قبل الحرب.

خبير بتگطيع البصل، مو بالمحرّكات.

أصدر محمد محسن حكمه النهائي، وأدخل نصف جسده النحيل داخل قمرة المحرك حتىكاد أن يختفي.

عاد شُكر إلى المشهد مرة أخرى ليحثّ محمد محسن على إصلاح سيارة الإسعاف:

محمد، تِره عبود صديقي ويفتهم كلش بالسيارات.

جاء صوت محمد من أعماق سحيقة:

ما لك غرض، آني أصلّحها. عبود أُسطة مال عدس.

وقبل أن تغرب الشمس نهائياً، كان عبود يمسح يديه من زيت المحرك، مصرحاً للجميعوعيناه على محمد محسن، المُشكّك الأول بقدرته الميكانيكية:

كلشي تمام، تگدرون تطيرون بهاي الإسعاف.

كتم كريم ضحكته مراعاةً لمشاعر محمد محسن، الذي هزّ ذراعيه في الهواء متذمّراً منجهلهم ببراعته في تصليح سيارة الإسعاف التي كانت تشبه حياته تماماً: عاطلة دوماً.

عند فجر اليوم التالي، تحرّك اللواء. كانت العيون شبه مغمضة، واحتلّ خليل كعادته أحدالكرسيين في مقدّمة الإسعاف، وبدأ يحلّل الأخبار الأخيرة مدخّناً بلا توقف.

أما الغارقون في النوم في عربة الإسعاف، فلم يأبهوا كثيراً للوقت، وكانت رجرجةالإسعاف على الطريق الوعرة بين الجبال كافية لإقصاء النعاس.

بعد أربع ساعات، أدرك محمد محسن أن الرتل في صعودٍ مستمر على الجبل، وليسالعكس، إذ إن الطريق من حوض بنجوين يجب أن تبدأ بالانحدار نحو الجنوب باتجاهالبصرة.

كانت المفرزة الطبية وباقي السرايا تتبع قيادة اللواء في الحركة.

بدأ خليل يدقّ ناقوس الخطر بحنكته التي لم تخنه يوماً في هذه الحرب:

أكو شي.

لم يعترض محمد محسن، بل صادق على استنتاج خليل الذي لا يقبل الشك:

شو گمّنا نصعد بهذا الجبل الأغبر؟ شنو، راح نطير للبصرة من القمّة؟

ذكّره خليل بخسارته الأخيرة أمام مواهب عبود الطباخ:

گالها الأسطة عبود الفاهمراح تطيرون بهاي الإسعاف.

بعد انتصاف النهار، توقّف الرتل عن الحركة، وبدأ الجنود ينزلون من العربات لتناولالغداء.

والحقيقة أنهم نزلوا بأمر من القائد.

كان العقيد الركن نهاد، آمر اللواء وقائد محنته، يتحدّث مع النقيب عيسى التكريتي،مسؤول الوحدة الحزبي. ثم التحقت بهم بقية الضباط، ودُعي الجنود لسماع الأوامر.

فبدلاً من الذهاب إلى البصرة، تقرّر الدخول فيمعركة صغيرة” – حسب تعبير القائدلاسترجاع تلة عراقية أخذها العدو.

وبما أن لواءنا كان ضيفاً على الفرقة العسكرية المرابطة في السليمانية، فقد تبرّع قائدالفرقة بإعطاء هذا الدورالبطوليلوحدتنا قبل الرحيل الموعود إلى البصرة.

بدا التجهّم على سحنة القائد وهو يسحب نفساً عميقاً من سيجارته، مشيراً إلى أُمراءالأفواج أن يلتحقوا به لوضع خطة الهجوم.

أكمل النقيب عيسى خطبة الفجيعة.

نزلت دموع غزيرة في قلب علي المضمد، لأن الرحلة إلى البصرة، مدينته الجميلة، نُسفتللتو، ولم يكن هناك أيّ أمل في مغادرة الجبل إلى سهوب الشمس بقامةٍ حيّة.

يتبع


مشاركة المقال :