د. احمد مشتت
تنتهي الإجازة الدورية في الحرب بسرعة خيالية. بمجرد أن ترتدي ملابسك المدنية وتشعر أن العالمأصبح ملكك، حتى يرن جرس الإنذار معلنًا نهاية الإجازة. عليك أن تعود، وعليك أن تتعامل مع شعور الكآبةالذي سيلازمك حتى اليوم الذي تسمع فيه من جديد أصوات المدفعية الثقيلة، وتتعود على وضعكالجديد. إنها دورة تتكرر كل بضعة أشهر.
تأكدت، من خلال شقيق زوج أختي الذي يعمل في الاتصالات في وزارة الدفاع، أن لواء مشاة ١١٤ قد تحركمن جديد خلال أيام إجازتي إذن. تلك هي المرة الأولى التي سأفتقد فيها تلك الحمى والفوضى التيتصاحب الحركة الجديدة، لكني لم أحزن كثيرًا بسبب ذلك. على العكس، تلك البقعة العالية في الجبالالمتوحشة والباردة لم تترك في قلبي أثرًا. كنا ننام بصعوبة كبيرة بسبب البرد ليلاً، نرتجف تحتالبطانيات، ورغم أننا كنا نشعل نارًا قريبة باستخدام الحطب المتوفر بكثرة، إلا أنها لم تروض البرد أبدًا. وبسبب الموقع الفريد الذي يفتقر إلى طريق بري، كانت عملية إخلاء الجرحى شبه مستحيلة.
علمت من سعد، نسيبي، أن اللواء قد تحرك إلى منطقة حوض بنجوين. كان عليّ أن أعود إلى مدينةالسليمانية، ومن هناك إلى عربت، حيث المواقع الخلفية لألوية المشاة في القاطع الأول، للالتحاق باللواءعلى ظهر شاحنة زيل عسكرية. فاللواء كان قد تولى مسك الأرض في حوض بنجوين بعد معارك طاحنةجرت في هذه البقاع في شهر تموز من عام ١٩٨٨، لتحرير الأراضي العراقية ضمن معارك “محمد رسولالله” التي قادها الفيلق الأول.
هل كان لواء المشاة ١١٤، بجنوده وضباطه، من المحظوظين لأننا تسلقنا تلك القمم العالية في المثلثالعراقي–التركي–الإيراني بدلًا من الالتحاق بالوحدات التي اشتركت في معارك حوض بنجوين؟ ربما. فأنتتحتاج إلى الحظ والرحمة الإلهية كثيرًا في أيام الحرب القاسية.
يشكل حوض بنجوين الأخضر تحفة جغرافية من الجمال الطبيعي، يتمثل في سهل شاسع منبسط تحيطبه عوارض جبلية متعددة، كلما اتجهنا نحو الشمال والشمال الشرقي، حيث مدينة “كرمك”، وشرقالمدينة تقع منطقة “لسان ميشاف”. يبلغ عمق الحوض ٣٣ كيلومترًا، على شكل نتوء داخل الأراضيالإيرانية. على كتفه الأيمن توجد مرتفعات جبلية يبلغ ارتفاع أعلى قمة فيها ٢١٥٥ مترًا، أما الكتف الأيسرفتتوزع فيه مرتفعات أعلى، حيث تصل أعلى قمة إلى ٢٩٥٠ مترًا.
في ذلك الوادي الذي استقر فيه اللواء، كانت عيون الماء العذب تخفف من حرارة الجو، وأصبحتمستقرًا للضباط والجنود خلال الظهيرة القائظة. عند وصولي، كان فصيل الطبابة بأكمله مع العدة فيسيارة الإسعاف. لم تكن هناك مواضع محفورة في الأرض؛ كان البعض ينام في حوض سيارة الإسعافالخلفي، والبعض الآخر افترش الأرض القريبة منها.
استقبلني “شمو” بكثير من المودة قائلًا:
ـ هلا بالدختور! فاتتك النقلة، عمي…
ـ دكتور، خلصت! الله يحبك!
أوجز خليل الموقف:
ـ ما نتَ هواك، فوضى عارمة أثناء الحركة.
أصرّ آمر سرية المقر أن يتحرك فصيل الطبابة في النهاية، بعد أن يتم إجلاء جميع الوحدات، تحسبًا لأيطارئ. بقي عناصر الفصيل بانتظار طائرة الهليكوبتر أكثر من عشر ساعات. باتوا ليلة كاملة وحدهم،بصحبة أصوات الذئاب في تلك البقعة المهجورة. كاد “بهاء” أن يفقد عقله من الرعب والظلمة، وظليردد أنهم نُسوا هناك، ولن تأتي أي طائرة لتنقلهم. قال لي خليل إنهم أشعلوا نارًا كبيرة فقط لتهدئة بهاء. أخيرًا جاءت الطائرة، وودعوا ذلك المكان، ولم يتأسفوا كثيرًا على مغادرته.
في حوض بنجوين، انضم إلى فصيل الطبابة عنصر آخر نُقل من الفوج الثالث، اسمه “شكر”، وكان يُلقببـ”شكر الأعرج”، لأنه كان قد أُصيب بشظية في ساقه اليمنى في معركة الفاو، وكان يستخدم عكازةللمشي. كان شكر حلاقًا أيضًا، وعند وصولي كان يحلق لجندي من سرية الإسناد، وصاح بصوت عالٍ:
ـ دكتور، الحمد لله على السلامة! هذولة الطبابة بس يحچون بيك
يتبع
