د. احمد مشتت
ظلت أخبار التحرك القادم للواء تحوم حولنا دون تأكيد. لا شيء مؤكد في زمن الحرب سوى الموت. فقدالفوج الثالث خمسة جنود إثر غارة من قوارب إيرانية لم تكن في حسابات أحد. كانت تذكيرًا بأن الصراععلى الأرض—الفاو—لم ينتهِ بعد، حتى مع تمركز القوات العراقية وبسط سيطرتها على الساحل الدموي.
طلب منا آمر سرية المقر إجراء تفتيش صحي على الأفواج والسرايا الأمامية، وتسجيل احتياجاتها منالأدوية والإسعافات الأولية. تطوع خليل وكريم للذهاب معي. أما سلام، فكان على وشك الذهاب فيإجازته الدورية، ولم يكن بمزاج يسمح له بالمخاطرة، بينما تحجج باسم بأنه أقل خبرة من الجميع فيأمور التفتيش.
سخر خليل منه قائلًا:
“على أساس راح نفتش مركز نووي! هذا الفوج الأول، وهسه يستقبلنا المقدم الركن العظيم يوسفويكتب التقرير بنفسه!
رد باسم:
–بس خليل، أنت وكريم والدكتور كافي… أقوى لجنة تفتيش بتاريخ طبابة لمش 114! وطبعًا، ما ننسىالنائب ضابط الركن، أبو الأركان، محمد محسن!”
تطوع شمو كذلك للمهمة، لكن محمد محسن رفض بشدة:
“هاي مهمة خطرة، مو مال مبتدئين.”
ذهبنا في اليوم التالي صباحًا لتحاشي شمس الظهيرة، وعند وصولنا إلى مقر الفوج الأول، لم يكن فياستقبالنا حتى عريف. قام خليل بفحص المطبخ، بينما فتش كريم صناديق الأدوية والإسعافات الأوليةبالتعاون مع محمد، أحد مضمدي الفوج.
منعنا النقيب علي من المضي إلى السرايا الأمامية بسبب استمرار القصف على الوحدات المواجهةللعدو. جلسنا معه لشرب الشاي، وقد بدا مرهقًا؛ لم ينزل في إجازة منذ عدة شهور، رغم أنه من سكنةمدينة العمارة القريبة من البصرة.
بعد خروجنا، قال خليل لي بصوت خافت:
“مطعم الفوج غير نظيف، والطباخ حاول يرشيني بكيس رز وعدس!”
قالها لي وحدي، دون أن يذكرها للنقيب علي، كي لا يعرض الطباخ للعقاب.
كتب خليل التقرير ووقعته أنا. شعرنا كأننا نقوم بمهمة خطيرة للغاية. أما كريم، فاكتشفت نقصًا واضحًاوغير مسجل في مسكنات الألم والأدوية المهدئة. يبدو أن هناك من يسرب هذه الأدوية خارج الفوج.
سلمنا التقرير للنقيب علي.
عدنا الى مقر اللواء بعد بضع ساعات، فوجدت الرفيق أمين بانتظاري. قال بصوت يحمل نبرة لومواضحة:
“دكتور، النقيب عيسى يگول شصار من استمارة الانتماء؟”
كان في صوته عدم رضا، وفي نظرته الخبيثة وعود شريرة.
“هي استمارة، تنملي بخمس دقايق وأبوك الله يرحمه!”
ابتسم ابتسامة صفراء وقال:
“هذه استمارة انتماء لحزب عظيم.”
أجبته ببرود:
“لازم تنملي بدقة واهتمام… نسيت أني دكتور؟”
لم يقل شيئًا، لكنه نظر إليَّ باحتقار واضح لم يستطع إخفاءه.
“بس تخلصها بدقة واهتمام، مر علينا.”
ثم اختفى.
شعرت بالارتياح لرؤية ظهره وهو يبتعد، وفكرت أن تحرك اللواء القادم سيكسبني بعض الوقت للمراوغةمع هذا الغادر.
كان صدى زيارة الرئيس لا يزال في الأفق. جمع الرفيق فرحان أبو سودة مراتب وجنود سرية المقر لإلقاءخطبة طويلة عن بطولات صدام حسين ومزاياه الإلهية، وعن تأثير تلك الزيارة التاريخية على معنوياتالجنود. انتهى الاجتماع بترديد الشعار:
“كلنا فداء لصدام حسين!”
يتبع