حميد الحريزي – العراق
(جوع اللفظ واشبع المعنى) الجرجاني
التكثيف والاختزال من أهم ميزات الرواية القصيرة جدا
في عصرنا الحالي حيث الآلاف من الفضائيات التي تبث عن طريق الأقمار الصناعية والتي تغطي كل الكرة الأرضية، والتوصيف والتعريف بأدق تفاصيل عادات الشعوب والقوميات وتقاليدها وشكل معمارها وحتى نوعية المأكل والملبس لكل منها، وحتى شكل غرف الضيافة وغرف النوم والحدائق والمتنزهات والشوارع والساحات، والثورة الهائلة التي أحدثها الانترنيت وسهل التواصل بين شرق الأرض وغربها خلال ثوان معدودة، وبث الملايين من اليوتيوبات التي تتناول أشكال وعادات وطرق حياة كل شعب من شعوب العالم من الاسكيمو إلى أقصى غابات أفريقيا.
كذلك تميز عصرنا الحالي عصر العولمة الرأسمالية بهيمنة ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شيء، مما خلق حاجات متزايدة في حياة الإنسان اليومية، يعمل توفيرها كنار تلتهم وقت الإنسان المعاصر للوصول إلى الحد الأدنى منها.
هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكل فعالية إنسانية، في عالم لاهث راكض، يعتمد السرعة في كل شيء، في العمل والأكل والحديث والتمتع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للإنسان كالأفلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للإنسان الراكض دوما في مسيرة الحياة، وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعا شديد الاختزال من الرواية وما اسميناه بـ(الرواية القصيرة جداً) وهو نوع جديد من أنواع جنس الرواية.
حيث وفر الواقع العلمي والثقافي للروائي المزيد من أمكانية الحذف والاختزال لما أصبح شائعاً ومعروفاً ومتداولاً بين الناس من شكل الملابس وتوصيف المساكن وأثاثها، وتوصيف شخصية البطل بأقل الكلمات، وعدم وجود حاجة إلى الإسهاب في سرد الحوار المضمر الداخلي للفرد الذي يعبر عن مشاعره وهواجسه وتطلعاته، فقد أصبح الإنسان في العالم الرأسمالي معلوم الهواجس للمثقف وللعامل والرأسمالي والطالب والرجل والمرأة، وكذلك في العالم الثالث أو ما يسمى بعالم الأطراف، فاختزال هذا الكم الهائل من الأشكال والمشاعر والتصورات التي استبطنها القارئ المتلقي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات واسعة الانتشار دعا الروائي إلى الاستغناء عن عرضها أمام أنظار القارئ، نعم لا حاجة لما تعرضه لي أنا الأسيوي عما يشرب ويلبس ويسكن ويفكر صديقي من فرنسا الذي التقيه كل يوم عبر الصورة والصوت بواسطة الانترنيت وربما أعرف أدق التفاصيل حول حياته الشخصية وحتى حياة عائلته.
فحينما يذكر الروائي برج إيفل أو الساحة الحمراء أو نصب الحرية في العراق أو ناطحات السحاب أو مسرح البولشوي، سرعان ما تظهر بكل وضوح كل تفاصيلها في مخيلة المتلقي لأنَّه يعرفها أما من خلال سفره الذي أصبح ميسراً لأغلبية الناس أو من خلال الفضائيات، وكذلك عند ذكر اسم أحد الأعلام في السياسة أو الأدب أو الفلسفة في العالم مثل جيفارا أو ماركس أو جورج واشنطن أو بوتين أو ماكرون أو بايدن أو نيرودا أو أراغون أو غاندي، وكذلك مشاهير الرياضيين تحضر كل تفاصيل وتأريخ هذه الشخصية في مخيلة القارئ والمتلقي لأنه شاهدها ربما آلاف المرات في التلفاز وفي وسائل التواصل الاجتماعي. حيث أصبح كل بيت في العالم لا يخلو من جهاز التلفاز وتوفر شبكة الانترنيت وامتلاكه لجهاز نقال ينقل له كل شيء.
فعندما يتحدث الروائي في عصرنا الراهن حول عمارة سكنية مثلا ليس بحاجة إلى توصيف وعرض محتوياتها وتأثيثها ولكنه يكتفي بعرض (الماكيت) أي النموذج المصغر للعمارة دون الدخول في تفاصيل محتوياتها من حيث السلالم والتأثيث ووسائل الإنارة والتبريد والستائر… الخ كما كان يسرده بأدق التفاصيل الروائي في العصور السابقة للعولمة، حيث أن المتلقي قد استبطنها مسبقا من وسائل التواصل الحديثة أو عن طريق السفر المتيسر.. فلا حاجة إلى توصيف الشخصية والاكتفاء بذكر علاماتها الفارقة.
وبذلك فالرواية القصيرة جداً بحجمها المختزل كثيراً إلى كُتيب أو كرّاس جيب صغير لا تحتاج أكثر من وقت الجلوس في قطار سريع متنقل بين المدن أو زمن سفرة تمتد لساعة أو أكثر من بلد إلى أخر أو سيارة على خط سريع، هذا الوقت المتاح للإنسان في عصر العولمة الحاضر، هذه الرواية التي لا تزيد كلماتها على 5000 كلمة ولا تزيد صفحاتها كما نرى على 40 صفحة متوسطة، وقد تكون أقل من ذلك بكثير، فالإنسان في عصرنا الحالي مشغول دوماً بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لا تترك له مشاغله اليومية إلا حيزاً محدوداً جداً من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموماً. مما جعل الرواية القصيرة جدًا من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير ما يمكن من الغذاء الروحي للإنسان، وحمايته من الوحدة والتوحد وجفاف الروح وتصحر المشاعر وغلاظة السلوك.
نوع الرواية القصيرة جدا تتيح للمتلقي المشاركة في تصور وتخيل إنفعالات الشخصية ومستقبل تطورها وان لايخرج عن الخط العام للرواية وحياكة خيوطها ولكنه قد يستعمل خيوطا مختلفة عن خيوط الراوي وعن طريقة حياكته، وهذه الأمكانية قد منحتها الرواية القصيرة جدا للمتلقي وللقاريء بحيث يحاور ويناقش ليكون مشاركا للروائي في بناء وكتابة رواية موازية في مخيلته، مما يولد الشعور لدى القاريء باهميته ووجوده الفاعل وليس المتلقي السلبي الملقن (الكسول) كما في الرواية الطويلة والرواية المتوسطة…كما ان الرواية القصيرة جدا تختزل الزمن بما لايقاس بالنسبة للرواية الطويلة عبر الاختزال والومض وليس الفرض، التلميح والترميز وليس الاسهاب في التشريح والتوضيح تاركة هذه المهمة لعقل وثقافة المتلقي. ولا شك أن اختزال الزمن أمر في غاية الأهمية في عصرنا الراهن، حيث تمتص اسفنجة الأستهلاك والأحتياجات اليومية للأنسان في عصر العولمة كل وقت الأنسان ولا تترك له الا زمنا ضيقا جدا يقاس بقدر مساماتهما ليستمتع بالقراءة وتغذية روحه من الفن الروائي والموسيقى والغناء والتأمل الحر، ونرى أن هذا الخطيب وهذا الواعظ وهذا القاص قد سحب الزمن العجول الملول المتسارع المتسائل منه كرسي الهيمنة والسيادة مفتشا عن بديل يشاركه السرد والصورة ولايفرض عليه جبروته كلي القدرة فكانت الرواية القصيرة جدا خير بديل كما نرى.
فالرواية القصيرة جدا، كتيب الجيب الصغير المتواضع والغني بالصورة الأبداعية والخيال الباذخ دون تضخم ودون ثقل ودون كلفة لا بالمال ولا بالحيز ولا بالزمن.
كل هذا وغيره يجعلنا نقول أن الرواية القصيرة جدا هي رواية الحاضر والمستقبل بإمتياز، طبعا أنها مهرة ليست سهلة الامتطاء والترويض وانما تحتاج الى فارس يمتلك الخبرة والقدرة وأسلوب الترويض والكفاءة الكاملة لحياكة خيوطها غير متناسيا شريكه القاريء والمتلقي..
الرواية القصيرة جدا هي غذاء الروح وهي زمن قصير مسروق من وقت الهم اليومي للأنسا الذي يسابق الزمن من أجل تأمين متطلباته الحياتية في زمن العولمة الرأسمالية…
الرواية القصيرة جدا سرد وجيز يؤشر رؤوس أسطر لأحداث إنسانية، وتترك للمتلقي سرد التفاصيل مما إستبطنه عبر ثقافته الذاتية.
الرواية القصيرة جدا، وليد جديد جاء من رحم الواقع الأنساني الحاضر، مولود ألقي في بحر أمواج الثقافة والأبداع المتلاطمة، مطلوب منه إجادة السباحة للوصول الى شاطيءن الأمان والرسوخ كلون جديد من جنس الرواية.
الرواية القصيرة جدا، وليد أفرزه رحم الواقع المعاش. هناك من يعتبره مولودا متكاملا، أو من يرى أنَّه وليد خديج بحاجة الى أن يوضع في حاضنة ليكتمل نموه، وهناك من يرى أنَّه ولد ميتا، حاله حال أي نوع أدبي جديد ولد وإندثر.
الرواية القصيرة جدا، اختزال وتكثيف في اختيار المفردة والجملة السردية بعيدا عن الاسهاب في التوصيف والتعريف وتفاصيل يستبطنها المتلقي من خلال حياته المعاشة، على الرغم من كل ذلك فهي تحتفظ باشتراطات الجنس الأبداعي الأم، الرواية فهي نوع جديد من أنواع جنس الرواية وليس جنسا جديدا.
فالرواية القصيرة جدا هي رواية وامضة وليست قابضة يكون السائد فيها التلميح وليس الأسهاب والتصريح، شخصياتها الثانوية خفيفة الظل مختزلة الكلام ومؤقتة المقام أثناء تواجدها في متن الرواية، تقول ما عندها بما قل ودل وترحل مسرعة حتى لايفوتها قطار السرد فائق السرعة ولايتضايق منها القاريء المتلقي. وهي لاتمسك بالقاريء لوقت طويل لساعات طويلة وربما لأيام كما في الرواية الطويلة والرواية القصيرة..
وهنا تكمن بالضبط الصعوبة بالنسبة لكاتب الرواية القصيرة جداً إذ تفوق صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا بكثير، فيجب أن يمتلك الروائي الحنكة والتجربة وقوة المفردة الموحية الجذابة حتى لايسهب مراعياً شروط الرواية المعروفة كتعدد الشخصيات، وتحولات الأحداث ـ وتحولات الزمان والمكان، على الرغم من الألتزام بالاختزال الشديد والتكثيف، مع عدم التفريط بالمضمون العام للرواية، أي أن يتمكن الروائي من تقديم وجبة غذاء روحية غنية بالمضمون وبالشعرية اللغوية بأقل عدد ممكن من الصحون والمقبلات.
وبذلك فنوع الرواية القصيرة جدا ينطوي على رشاقة لاتعني الهزال، ومضمون يستدعي سعة الخيال وحبكة لاتفرط باشتراطات جنس الرواية.
من مميزات الرواية القصيرة جدا اختزال صفات الشخصية من حيث الملابس وطريقة العيش لأنها أصبحت معروفة عن طريق صور الفضائيات والنيت واسع الانتشار….كذلك الحاجة إلى توصيف العمارات والبيوت والفلل في مختلف البلدان فالمتلقي حينما تقول امريكي يعرف طريقة عيشه ولبسه وعمران بيته حسب طبقته الأجتماعية وعرقه…استخدام الترميز والأيحاء وإشراك المتلقي في رسم المشهد في مخيلته دون الحاجة الى سرده بكل تفاصيله كما في الروايات الطويلة وحتى في الروايات القصيرة…عدم الخوض في الحزئيات التي لا تؤثر على مضمون استخدام اللغة الشعرية الرشيقة…المحافظة على تعدد الشخصيات وإختزال الحوارات الطويلة…إعتمادالأشارات المكانية والزمانية الرشيقة…الحاجة إلى سرد الحوار الداخلي للشخصية بالتلميح وترك التفاصيل للقاريء حسب فهمه للنص والشخصية وثقافته السائدة في بلده. واعطاء فرصة لأكثر من أستنتاج لما يمور في دواخل الشخصية تختلف من قاريء الى آخر وحسب فهمه وتحليله للنص الروائي، وبذلك يتحرر المتلقي من وصاية الراوي في فرض مايراه هو حول مايدور في نفس الشخصية، وكأننا نقترب هنا من النص الشعري النثري الذي يعطي للمتلقي حرية التأويل والتحليل لصوره الشعرية فتجاوز بذلك واحدية الصورة في القصيدة العمودية التقليدية.
أعود وأقول أن:-:
الرواية القصيرة جدا بنت عالم السرعة والاختزال، تعطيك الحكاية وتترك للمتلقي والقارئ فرصة تفكرها وتخيل مشاهدها وفق ما يختزنه من ثقافة ومعلومة حول الشخصية والحدث.
*الرواية القصيرة جدا نوع جديد من انواع جنس الرواية ، كتبته في عام 1909 لاول مرة، نظرت له 2015، طبعت مجموعة من اربع روايات في 2019، كتبت الان في العراق وتونس وفرنسا ، والاردن ، ونظمت لها مسابقة في مصر اشترك فيها العشرات من الروائيين العرب …
* الرواية القصيرة جدا – اضاءات نقدية – حميد الحريزي اول كتاب نقدي حول الرواية القصيرةجدا مكون من 300 صفحة صدر في مطلع 2025.ضم العديد من المقالات النقدية من قبل نقاد وادباء وصحفيين.
hxwqj3