قراءة في لوحة السلام للفنان العراقي فائق العبودي

قراءة في لوحة السلام للفنان العراقي فائق العبودي

التي أهديت لمنظمة الملكية الفكرية في جنيف، وباسم دولةرئيس الوزراء الأستاذ محمد شياع السوداني

د. محمد البندوريالمملكة المغربية

إذا كانت لوحة السلام العريقة تُتوج حضارة العراق الضاربة في أعماق التاريخ بأشكالها ورمزيتها ومعانيها الدلالية، بقدر ما تحتويه من شخوصات ونقوش وألوان و مايقع فيها من علامات شكلية مرئية؛ فإنّ إعادة صياغتها وفق منجز فني تشكيلي معاصر من قِبَل الفنان العالمي فائق العبودي قد سمح بخروج الإشارة، والإيحاء إلى حيز المعنى الفني والجمالي بما يُجلي معناها ويبدي ما ترمز إليه فنيا وجماليا، ما يدع لدلالة الأخلاق والتعايش والسلم والحوار أن تترسخ من خلال القيم الفنية، خاصة وأن هذه اللوحة تتوافر فيها مجموعة من  العلامات ذات القيمة العالية التي تخفي وراءها العديد من الحقائق المعرفية والفلسفية والاجتماعية والثقافية والسلمية. والذي يؤكدذلك، هو ما يظهر فيها من الأشكال ذات المعنى السلميوالتوجه الحضاري. فالفنان فائق بعبقريته الفنية يُعلنضمنيا من خلال منجزه التشكيلي المتفرد عن اكتشافيتضمن ما ورائيات المظهر الخارجي، إذ هناك لغة فنيةسلمية تبعث فهْما متطورا عن التعايش والحوار والسلام؛ وهو الغائص بتشكيلاته في أحضان الحضارة العراقيةالعريقة بكل تفاصيلها ودقائقها وحيثياتها. ولذلك تحمللوحته الجديدة دلالات وعدد من المعاني التي تتصلبالسلام. وقد جسد هذا المعنى برمزية عميقة تتصلبالجانب الهندسي، والصوري والنحتي واللوني في نطاقمن العلاقات التفاعلية وبين مجالات عدّة، منها الأفكار، ومنها مجالات الحياة السلمية التي تروم التعايش وبعثالأمان والطمأنينة في مختلف المجالات الحياتية، باعتبارأن واقعية هذا الرسم تتسم بكيفيات عميقة في التفكير. فالعلامات والخدوش المنقوشة والكتابة التي تتسيد فيالشخوصات والنظرات المختلفة والحركة؛ تُشكل جميعهاانعكاسا مباشرا عن الرغبة للطوق إلى السلام. فاللوحةتفصح عن ذاك التعبير القديم المتنوع في الشكل، والمتنوعكذلك في طريقة تدبير الخطاب وبسط تأثيره في الوسطالاجتماعي والثقافي والفني. وقد فطن الفنان فائق إلى هذا التنوع وجسده بخبرة الفنان المثقف، وبتجربة الفنان الممارس، ليُظهر للقارئ قوة ما تُخلفه العلامات برمزيتها من إيحاء وإشارات وتلميحات لها دلالاتها الخاصة والعامة، باعتبارها علامات مرئية تأتي إما على شكل رسوم أو شخوصات أو خطوط أو خدوش أو أشكال متنوعة مستقاة من الحياة الواقعية، وقد طوّرها المبدع فائق وبيّن درجات الدلالة فنيا وجماليا، وهو انتقال بلاغي في عمله هذا؛ يتصل مباشرة بالرمزية في علاقتها بالأفكار النبيلة والصفات الحميدة التي مثّلت نشاطا إنسانيا بمختلف مظاهره المادية والمعنوية باعتبار أن السلام يدل على التحضّر بما يُبين النتيجة المباشرة التي كشفت عنها هذه اللوحة في استجابة حقيقية للمعنى الأمثل.

ولا غرو في ذلك؛ فالفنان العالمي فائق العبودي دائما يعزز في المشهد الفني تلك الآليات العلاماتية  والأدوات الرمزية التي تحملها لوحاته، والتي تنبثق أساسا من المعنى الدلالي للحضارة العراقية المتجذرة في التاريخ الإنساني. وقد حضرت مجمل المفردات الرمزيةوالعلاماتية في لوحة السلام لصياغة معنى أمثل يزكيتصوراته التشكيلية وآرائه الفلسفية، والتعبير بلغة السلاممن خلال الرسم الرمزي والعلاماتي واللوني، ليبديمؤهلاته الفنية وتقنياته العالية في التعامل مع العملالسومري القديم ويجلي الصورة الرمزية، والشكلالعلاماتي، واللون في تشكلاته واندماجه في مختلفالمفردات الفنية داخل الفضاء على نحو من التعبير الفنيالمعاصر، ووفق مفاهيم فنية جديدة وأفكار تشكيلية عميقةالدلالات، جَسّدها في مختلف الاستعمالات التشكيليةلبعث القيم الفنية والجمالية في هذا العمل المتفرد، الذيلامس به مقومات البنية الفنية السومرية من جهة، وقارببه المحتوى والمعنى والدلالة المتكاملة التي تروم السلام، وعضّد به إنتاجه الفني والجمالي بكل ما يحتويه هذاالعمل من تماثليات؛ وروابط تتقصّد التوليف بين اللوحةالسومرية واللوحة الفنية المعاصرة، ما جعل من هذا العملأيقونا وبُعدا بلاغيا. لأن الفنان فائق أعاد تأسيسالمشهد الرمزي والعلاماتي وفق خاصيات الرسم والشكلواللون، ووفق خاصيات المعنى؛ فأضاف أبعادا ودلالاتأخرى، منحت القارئ فرصة أخرى لقراءة المنجزالسومري بأبعاد جمالية وفنية وبلاغية معاصرة، وبنوعمن التواصل الذي يربط بين الماضي والحاضر، بموضوعأساسي جدا وهو السلام، الذي شدّ الرأي العام فيالحضارة القديمة ولا يزال يشدّه في العصر الحديث، بلهو من أهم انشغالات الرأي المعاصر.

 وبذلك يأخذ هذا العمل الفني الجديد للفنان العبقريالكبير فائق العبودي موقع الصفوة فنيا وجماليا وبلاغياودلاليا وتعبيرا، إذ اتخذ مساحة بصرية جعلت منه بؤرةتشكيلية عبر ممارسات وظيفية وطقوس تعبيرية. واتخذتالعلاقة بين المادة السومرية القديمة واللوحة التشكيليةالجديدة مسارا معرفيا ووجدانيا وثقافيا وحضاريا، أسهملا محالة في تشكيل خيط تواصلي ينطوي علىمقصديات فنية وجمالية وبلاغية. وشكّل هذا العمل كذلكفي سياقه الحضاري مادة فنية طرقت القيمة الرمزيةللعمل السومري القديم في نطاق التّمثل الجماليوالبلاغي والتأويلي، ما أكسبه قيمة فنية ودلالية، أظهرتالقوة التشكيلية للفن العراقي والعربي الذي يطاوع المجالالتعبيري في نطاق واسع. وقد شكل دعامة فنية لتمثيلالهوية العراقية والعربية في أبهى صورة عن أجملحضارة كانت وظلت تتوق إلى السلام، فاستطاع الفنانفائق أن يستثمرها إلى أبعد الحدود ويسهم في مأسسةمدرسة فنية رمزية ذات أسس ومقومات فنية وجماليةوحضارية وتراثية، تتمتع بتميز قوي في النسيج الفنيالعالمي.

(Visited 23 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *