— !!! الوطن العربي مصحة كبرى !!! —
فيلم المتمردون ،هو أحد الأفلام التي عالجت أسباب نكسة العرب الكبرى في حزيران 1967. وأنتقدت التجربة الناصرية التي أوهمت الشعب العربي بالأنتصار ورمي (أسرائيل) في البحر. فقد انتجت شركة القاهرة للأنتاج السينمائي الفيلم عام 1968. ولأهمية الموضوع الذي تناوله الصحفي والروائي (صلاح حافظ) بكتابته وسرده للقصة وبنفس العنوان. ووضع لها السيناريو والحوار لتلك الرواية (محمد عثمان) انتج الفيلم بشكل مميز وكان بالمركز 78 من بين أفضل مئة فيلم في السينما المصرية كأمثال فيلم الكرنك– الأرض– العصفور … الخ .
لقد أبدع المخرج العنيد (توفيق صالح ) بحيث كان يعيد اللقطات لمرات عدة كي يختار الأفضل والأكثر أقناعاً للمشاهد .
كنت أتمنى أن لايسمى الفيلم ب [المتمردون ] لأن كلمة المتمرد، هي أساءة له وتفيد بالخروج عن النظام السائد والقوانين الكفيلة بالأرتقاء بالواقع الأجتماعي. وكان الأجدر حسب رؤيتي أن يسمى (المنتفضون أو الثائرون ) لأن هذه المجموعة كانت تطالب بأبسط حقوقها المشروعه في الحصول على الماء والدواء وهما من مستلزمات الحياة.
يتواجد من بين مرضى المجان في المصحة، طفل صغير، وعادة يشار برمزية الطفولة إلى الحاضر الآني والمستقبل الآتي. هذا الطفل مريض بالسل الرئوي ويشكو العطش والمرض، مما أدى به إلى الموت فكلا العطش والمرض كانا سبباً في فراق الحياة وهذه أشارة الى الواقع العربي قبل عام 1967. بأنه واقع مريض والمستقبل فاقد للحياة، أنطلاقاً من أن الماء هو سر الحياة[ وجعلنا من الماء كل شيء حي ]
مدير المصحة الدكتور رشوان بيه (محمود السباع) شخصية محورية فهو يمثل السلطة الدكتاتورية الجائرة والحاقدة والفاسدة ادارياً ومالياً . فهو الباحث عن المكافآت والمساعدات والتبرعات المالية بأسم مرضى المصحة والذي يعلن بأنه يسعى إلى حجز المرضى في مصحة وسط الصحراء ليوهم المجتمع بأن هذا العزل هو للمصلحة العامة وفائدة للجميع لكي يحد من تفشي مرض التدرن حال هروبهم إلى المدينة وأنا أعتقد أن أي سلطة دكتاتورية أستبدادية خانقة للحريات تنعت أي فكر تقدمي رافض إلى كل أشكال الفساد بالتدرن كي تنفر منه الجماهير ويفقد تأثيره عليها خوفاً من أنتشاره، لان السلطات الأستبدادية تسعى بكل ماأوتيت من قوة الى تجهيل المجتمع وتدمير بنيته الفكرية والعقائدية وتهشيم جوهر الأرتباط الوطني .
يلعب الدكتور عزيز (شكري سرحان) دوراً أساسياً في الرواية والفيلم فهو المريض المصاب بالتدرن وهو الطبيب في آن معاً فقد شكل بشخصيته المركبة الطبقة الوسطى، الذي ينال الثناء وتقدير الطبقة الفقيرة في المصحة وكذلك الأحترام من الطبقة العليا، طبقة الأدارة والأطباء. فيكتشف أنه يعيش مع السلطة العليا التي تدعي الولاء والوطنية. ويصطدم بأن الفساد يبتدئ من الوزارة حتى جوف ادارة المصحة. فبعد شهرين يعود الطلب المخصص لعلاجه لعدم معرفة كم هو عمر المريض المصاب بالتدرن وهو الطبيب د. عزيز. لينتظر أشهر أخرى حتى ترفع المذكرة للوزارة لتخصص له كمية من العلاج ومنها أبرة (الستربتومايسين) .
وفي لحظة الشجاعة والعنفوان والغضب، وعندما لمس أن الأرضية مهيأة أنتفض هو ومرضى المجان أنتفاضة عفوية نتيجة الأحتقان والأهمال على إدارة المصحة. فحصل أن سيطروا عليها وأنتقلت الأدارة إلى د- عزيز وأصبحت أدارة شعبية ،ولكنها فوضوية بسبب أفتقارها إلى المنهجية القيادية والمشروع الأداري. فكل الذي حصل هو الأحتفال الشعبي من مرضى المصحة بأنشودة( ياعزيز عيني بدي أروح بلدي ) وتلك كانت أقصى ماأراده دكتور عزيز وهي رغبته بالمشاركة الجماعية للحكم من خلال المساواة في الحصول على الماء فكأنها دعوة للأشتراكية. ومما يؤكد ذلك قول أحد الأطباء
( يوم ماتبقوا أنتم النظام وأنتم الحكومة، هيسمعوا مطالبكم ) وقول د- عزيز مخاطباً أحد الأطباء ( واجبك الدفاع عن المرضى) بمعنى الدفاع عن القضية والمبادئ.
أخلاص هانم( زوزو شكيب) مسؤولة الهيئة العامة لمكافحة التدرن، تلك المرأة العجوز المتصابية ،التي تعاني العطش الجنسي والحرمان الجسدي تزور المصحة زيارة تفتيشية، لكنها تقف إلى جانب مدير المصحة الفاسد د-رشوان . فيلتقي الفساد الجسدي مع الفساد المالي والأداري.
وأعتقد أن المشير والمحيطين به شكل حالة من الفساد اللاخلاقي .
من الشخصيات المحورية ، هي شخصية الصحفي المصاب بالتدرن رجب أفندي (توفيق الدقن) الذي كان هو صوت الشعب عندما ألهب حماس نزلاء المصحة بخطبة مؤثرة. أنتفض على أثرها المرضى بالهتاف[ لاسكوت بعد اليوم] واجهوا بها المدير الفاسد د- رشوان . ولكن الصحفي رجب افندي يعجز بأيصال صوت المصحة إلى الصحافة والرأي العام فتنتهي عنده الأفكار الوردية والمستقبل الزاهر الذي كان يراهن عليه.
( سيد) أحد المرضى الذي تفاقمت حالته وساءت صحته يتسائل
( لماذا بعض الناس تعيش بحالة جيدة ونحن نعيش البؤس والحرمان) فقد كان معبراًعن الطبقة المسحوقة وبأشارة إلى التباين الطبقي وفشل مشروع الأشتراكية والمساواة.
بعد الفوضى الأدارية واليأس في أدارة المصحة ، تقتحم القوات الحكومية، وتهدم أسوار المصحة وبحضور النائب العام الذي شكل محكمة صورية في الصحراء تفتقر الى أبسط مقومات العدالة ،فالنائب العام كان يوجه السؤال للمتهم د- عزيز الغير مسموح له بالأجابة ، فاللذي يجيب عن السؤال هو النائب العام وليس الدكتور !!! .. فأعتقد أنها أشبه بفوضى الاتهامات التي كانت توجه إلى رجال هزيمة حزيران 1967. والتي أدت في آخر المطاف إلى( أنتحار) المشير عبدالحكيم عامر، والخطاب الشهير للرئيس عبدالناصر الذي أعلن فيه التنحي عن السلطة مع اعترافه بتحمل كامل المسؤولية، واختيار زكريا محي الدين بديلاً عنه دون الرجوع إلى رأي مجلس قيادة الثورة مما سبب أيضاً بالأطاحة بالسيد زكريا محي الدين .
بعد كل هذه الأحداث يعود الدكتاتور د- رشوان بيه إلى أدارة المصحة وهو أكثر قوة وأكثر سطوة ليبطش بكل من يقف حائلاً بينه وبين القرارات التعسفية التي أصدرها بالضد من مرضى المصحة.
مشكلة الدكتور عزيز، وبعد كل الأحداث الدراماتكية لازال يحلم بأحلامه الوردية وخاصة عندما أستثمرت الممرضة سعاد (زيزي مصطفى) الفراغ العاطفي الذي يعاني منه د- عزيز الذي رفضته خطيبته والتي قبلت به طبيباً وتخلت عن مؤازرته مريضاً . فأوقعته سعاد في حبائل حبها. عندما قال [ أن التجربة نستفيد منها للمستقبل] وما فعلته سعاد مع د-عزيز وخطيبته السابقة هو أشارة الى الطبقة الأنتهازية ذات الأتجاه الميكيافيلي وهذه الطبقة كبيرة جدا في مصر والوطن العربي .
لابد من الأشارة إلى الموسيقار (كمال هلال) في وضع موسيقى تصويرية معبرة عن أحداث الفيلم. ومهندس الصوت (عزيز فاضل) ومهندس الديكور (صلاح مرعي) ، الذي أجاد بتصميم ديكور يعبر عن بؤس المصحة. ونثمن جهود بقية الممثلين الذين عاشوا الأدوار بكل أخلاص ووفاء للسينما العربية …
… بقلم ناجح ابوغنيم
أعترف أن السينما ليست ميداني ولكني وأن كنت فنان تشكيلي متخصص بالنحت أحببت أن أقدم رؤيتي الخاصة بالفيلم …