الخزاف سعد العاني..   السكـن في التخـوم

الخزاف سعد العاني.. السكـن في التخـوم

خالد خضير الصالحي 

لا نفعية الخزف

كان كلايف بل، في كتابه (الفن)، يصف نمطا مختلفا من الرسم، لا ينطوي على (شكل دال)، وهو الخاصيةالتي يعتبرها مقدسة و(جوهرية)، ويعتبرها كذلك معيارا يميز بين (الفن) التشكيلي الذي يستثيرنا ويهزناباعتباره نتاجا جماليا، ويقارن ذلك النمط مع (الرسم الوصفي) descriptive painting الذي يصفه بأنهالرسم الذي يُستخدم فيه الشكلُ، لا كموضوع للانفعال، بل كوسيلة لنقل معلومات، او اقتراح عواطف،وفي هذا التصنيف تدخل أنماطٌمن الرسم اوضحها نمط رسم البورتريهات وخاصة منها تلك التي لا تمس(انفعالاتنا الاسثطيقية)، ونلحق نحن اليها القطع الخزفية (النفعية) التي تنتجها مصانع الخزف بقوالبيعاد تكرارها الاف المرات.

 

المزاجين القومي والشخصي

حين يصف هربرت ريد فن الخزف بانه: “جوهري، ومرتبطبا لاحتياجات الأولية للحضارة لدرجة كبيرة،فهو الفن الذي يجد المزاج القومي التعبير عن نفسه، بل أنه ليمكنك أن تحكم على فن بلد من البلدان،وأن تحكم على رقة احساساته عن طريق صناعة الفخار لديه فهي مقياس اكيد لذلك، فأننا، بشكل مماثل، نعتبر الفخار، الفن الخالص والمتحرر من كل رغبة في التقليد، والمتخلص من (العيوب التقليدية) لفن النحت، الشقيق الأقرب للفخار، والذي انفرد بامتلاكه لإرادة التشكل والتجسيم بأكثرمعاني هذه الكلمة تجريدا“.

نعتبِرُ هذا الامرَ المفصلي واحدا من اهم خصائص تجربة الخزاف سعد العاني ومداخلها، فلأنه يؤمنتماما، أن صناعة الفخار هي الصناعة الأبسط بين الفنون جميعها، وبالتالي، وقد تبدو تلك مفارقة، هيالأكثر صعوبة لأنها الأكثر أولية، والأكثر صعوبة لأنها الأكثر تجريدا؛ فكانت تجربته الخزفية، وان كانتتتألف، احيانا، من اعمال قد تكون صالحة للاستخدامات النفعية المعروفة للخزف، ولكنها بفعل إرادتهالحية لم ينزل بها الى درجة الوسيلة النفعية، فكانت تجربة الفخار عنده (فنا خالصا)، بمعنى كونهفنامتحررا من كل رغبة في التقليد، وهي السمة التي قد تتسرب الى الخزف من شقيقه فن النحت، وهوأقرب الفنون صلة بصناعة الفخار، فكان العاني يحاول ما استطاع الى ذلك سبيلا، ان (يحدّث) و(يعصرن) الاتجاهات التقليدية التي قد تكون الأقل حرية في التعبير عن ارادة التشكل من صناعة الفخار، لذلك كان يستعين بقوةٍ بآليات وإمكانات فن الرسم التعبيرية، وتحديدا صنفه الذي يتخذ الشكل (الوجود المادي) بذاته موضوعا للانفعال، وليس وسيلة لنقل اي هدف (خارجي) او سردي آخر؛ فيحار المتلقي، وهو يتلقى منجز سعد العاني، ان كان امام قطعة خزفية، ام امام لوحة اتخذت من سطوح العمل الخزفي حقلا لوجودها..

أحاول ان اتجنب التشبَّع بتجارب الاخرين لأجل ان لا تنتقل تأثيراتهم المباشرة لي فانا اخاف من ذلك” (س.ع).

تخوم فنون: الخط والرسم والنحت

يسعى سعد العاني الى محو الحدود الكلاسيكية بين أنماط الفن ومحاولة وضع قواعد عمليةٍ لعلامات تشكيلية تجمع شتات أنماط الفن التشكيلي (الخط والرسم والنحت) لتشكل باجتماعها نمطا اخر مختلفا من الخزف.. فهو يعمل على حافة حرفة الفخار، لذا يمكن اعتباره رسامًا أو مصورًا لأشياء ثلاثية الأبعادحيث يكون سطح الإناء هو لوحته، ذلك يحتم عليه أن يكون الشكل واشتغال سطحه متكاملين، معالتصنيع الفيزياوي، وان تجمع معالجةُالسطح بين فن الخزف والنحت والرسم، فهو يقوم ببناء أشكالعضوية مفعمة بالحيوية يدويًا، ويدمج فيها الألوان من خلال كتل الطين الملونة، بل المرسومة؛ فتمتزجطبقات الألوان، والكتل الهندسية، والحروف، والاشكال المشخصة، بسلاسة مع حقول الألوان، ومنحنياتاعماله ثلاثية الأبعاد في عملية تعايش سلمي بين الألوان والأشكال الملونة على سطوح العمل لتظهرالأشكال الهندسية مبثوثة على الكتل المنحنية بأشكال خيالية مرتبطة بالواقع مع لحظات عابرة، وكانهيترسم خطى كتاب قصيدة النثر بنصوصها (المفتوح) التي نعده نصا جامعا للانساق المتباينةوالاجناسيات المختلفة التي تذكرنا بالحيوانات المركبة التي انتجتها البشرية طوال وجودها، فكان سعدالعاني يرسم (منحوتخزفياتـ)ـه بتوليفات مثيرة كانت لها براينا مساهمة في توسيع تقاليد السيراميك عبرتعامله مع مفاهيم تتراوح بين المادية والخط والاثر، موظفا الأشكال البكر في الطبيعة، والأشكال الخزفيةالتقليدية كمنطلق له، مع ايمان راسخ باتباع نصيحة دريدا: “لا يكون نص نصاً إن لم يُخف على النظرةالأولى، وعلى القادم الأول، قانون تأليفه وقاعدة لَعِبهفهو ببساطة، لا يسلم أبداً نفسه في الحاضر لأيشيء مما تمكن دعوته بكامل الدقة إدراكاً” (صيدلية افلاطون)، فيمعن العاني في إخفاء (قواعده)، اوتشويهها بطرق تنحرف نحو تحطيم الأيقونية و(القالبية) فيها تحت وابل من التزجيجات والألوانوالأنسجة التي يختارها، ويدوزنعلاقتها ببعضها البعض حتى تكون مغرية أولا، ومتناقضة في الوقت عينه،نسيجا يروفه على نسيج، لتظهر أشكاله الغريبةوالمشوشة التي تنتج بالدرجة الاولى من خياراته اللونيةالمفاجئة، فتنتج وعيا غريبًا لدى المشاهد، وتنتج تأثيرًا عميقًا، تحت وابل نزوعه الشديد الى ان تكون كل(منحوتخزفيـ)ـة من اعماله فريدةً وموجزة وبليغة ومعبرة عن تنوع واسع.

 

زحزحة المفاهيم التقليدية لفن الفخار

إن القطع الخزفنحتية التي ينتجها سعد العاني تزحزح المفاهيم التقليدية لفن الفخار من خلال الامعان في الاشتغال التقني بالوسيط، مما ينتج أشكالا وألوانا وأسطحا غير تقليدية نتيجة الاشتغال الذي تطلب عملا تقنيا كثيفا، وتواصلا غنيا، وخيالا واسعا يوازن بين المتناقضات التي تزخر بها الاعمال التي استطاعت تحويل المألوف إلى نتاج جديد وغريب.

انه يجد براعته، ودقة اشتغاله في الأعمال الصغيرة، مراعيا حدود وإمكانية مادته، التي تنتهي الى ان تكونفاتنة، وخيالية، ومتألقة، ومذهلة، ومرحة، ومعقدة، واستفزازية، مهما تباينت حجومها التي تمتلك تنوعاواسعا.

لقد أنتج مجموعة متنوعة مبهرة من الأعمال الفنية الخزفية، وقد يكون من الصعب معرفة من أين نبدأ،صحيح انه قد بدأ بإنشاء أشياء بسيطة ونفعية مثل الأطباق وغيرها، لكنه أنتج لاحقًا أشكالًا أكثر تعقيدًا،بما في ذلك المزهريات التي تتشكل مختلف الرسوم ذات الملامح الواضحة أحيانا والغائمة أحيانا أخرى،كما اشتغل سعد العاني خلال تجربته التي امتدت سنوات طويلة على عدد من تقنيات السيراميكالمختلفة، مثل تجربة الطلاء، أو اللعب بالشكل، أو نقش سطح الطين.

ينتج سعد العاني عدة أنماط من السيراميك، منه المزجج، ومنه غير المزجج كليا او جزئيًا؛ وقد يكونالتزجيج كثيفا وأحيانا نجد علامات معالجة باهتة على المناطق غير المزججة، وبذلك يعتبر السيراميكوسيلة معقدة، تتخلله مناطق من العيوب الصغيرة الناتجة عن عملية الإنتاج ومشاكل الحالة، وأحياناالشقوق الناتجة عن إطلاق النار، او نجد شقوقا دقيقة جدًا في التزجيج، ولكن كل تلك العلامات تعد جزءامن جمال القطعة النهائية، ويعد التنوع الهائل في تجربة السيراميك جزءًا من جاذبيتها الدائمة.

مهما كانت حالة العمل الخزفي فسيوضع بشكل مختلف اعتمادًا على البيئة المحيطة به، وقد يتناسبتصميم معين بشكل أفضل مع غرفة واحدة أكثر من غرفة أخرى، اعتمادًا على شكله ولونه، فان الخبرةالتي رشحتها سنوات الإنتاج المتواصلة جعلته ماهرًا في اختيار الطلاء الزجاجي الصحيح لتحقيق رؤيتهلكل قطعة، وتجربة تقنيات تستفيد من الظلال، وتشوهات السطح في تحقيق ميزات مرغوبة في سطحالقطعة الخزفية، وذلك سيجمع العاني بين صفاته كخزاف وصفاته الكامنة الأخرى في الرسم والنحت،حيث يوفر الخزف منح اللوحة المسطحة سطحا ثلاثي الأبعاد فتنشأ من ذلك تأثيرات مكانية فريدة.

لا يستخدم سعد العاني سواء في صناعة (نحت) اشكاله التي كان ينحتها كل قطعة منفردة، بشكل لايتكرر، كما لا تتكرر الخطوط التي يوظفها أحيانا والتي ينجزها بنفسه، فهو امين لأشكال الخط التي تلائمه؛فلا يكترث لقوالب الخط الجاهزة، وقواعد الخطاطين ومقاييسهم الصارمة، وقد يصل الامر به الى الغاءبعض اجزاء الكلمات والحروف.

رغم ايمان سعد العاني بأن الخزف واحد في كل انحاء العالم، فالطينة هي ذاتها، والتزجيج هو ذاته،ولكن الاختلاف يكمن في التعاطي مع الافران والاكاسيد ودرجات الحرارة، وتأين الافرانالتي تعطي سماتونتائج مختلفة، تجعل عملية التزجيج تنطوي على اختزالات معينة، ومؤثرات على الزجاج كالاختلافبالألوان،ودرجة البريق الذي يكون نقيا جدا في الافران الكهربائية التي تخرج الألوان، والزجاج طبيعيا ونقياجدا.. فكان اشتغاله بتقنيتيالكهرباء والغاز بدرجة حرارة (120) ومعاملة الزجاج معاملة خاصة بدرجهحرارة 1000 التي تشكل درجة وسطا ما بين الطافي واللماع؛ فيشعر المتلقي باللونين معا وكأنمايتحسس ملمسين بيد واحدة؛ فتتحقق صفة جمالية خاصة.

 

مقتبسات من سعد العاني:

أحيانا الغي اللون، فنحن الان والعالم في تطور من ناحيةالتقنيات التي احاول ان اكسر الانساق السائدةفيها من ناحية اللمعان من خلال طريقة التعتيق باللون للحصول على اسلوب مختلفاشعر انني قدوصلت الى درجة لا باس بها من الهيمنة على المادة، وانا مستمر بتطوير وسائلي، وتجريب موادأخرى،وتقنيات أخرى“.

قد تبدو خطواتي بطيئة ولكنها حسب اعتقادي كافية، اجرب الان تحضيرات خاصة للطين اتكرتها،واضفت لها مواد غير مستخدمة سابقا من اجل تفادي تشقق العمل الذي يتعرض لهذا الخطر كلما كبرحجمه، فالطينة قلب العمل الخزفي برأيي

أحاول تجريب تقنيات جديدة، لذا أتوقع ان تكون الاعمال القادمة مختلفة، وستكون مختلفة وكبيرةبأحجامها، وتقنياتها الصعبة لذا اعتقد ان تكسب هذه العملية العمل مزيدا من الجمال، فمنخلال حرارة1200 ستختلف الاعمال مستقبلا من ناحية لون اكاسيد الزجاج، ومن ناحية الاختزال، ووجود مسحةحزن، ومن ناحية الموضوعات غير المطروقة سابقا“.

لا اعلم الخطوة التالية؛ فالعمل هو الذي يقودني، انا لا اخطط لأعمالي، وحينما ابدا عملي تبدا الافكار بالحضور، لكنني احافظ قدر استطاعتي على احساسي بالمسؤولية أولا، والتمتع بالعمل بدرجة الا حدودلها، فحب الطين، وحب المكان هي اسس العمل برأيي

(Visited 45 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *