د. عبد الستار الجميلي
منذ عام ١٩٤٨ وإلى بداية التسعينات كانت القضية الفلسطينية قضية عربية مركزية، بغض النظر عن أي إتفاقات أو معاهدات وقعت مع الكيان الصهيوني في إطار الأرض مقابل السلام أو الإعتراف المتبادل أو التطبيع. فلم تخرج هذه القضية عن موقعها المركزي في العقل السياسي العربي رسميا وشعبيا، حتى بالنسبة للدول العربية التي وقعت هذه المعاهدات أو الإتفاقات، لذلك بقيت هذه القضية العربية المركزية على رأسأولويات المواطن العربي في المؤسسات والشارع والمدارس والجامعات وفي المدن والقرى الأرياف.
الا أن أوراق القضية العربية الفلسطينية سرعان ما إختلطت، والمصالح حولها تعارضت، وأصبحت القضية الفلسطينية أكثر تعقيدا، بفعل دخول أطراف إقليمية (ايران وتركيا) على خط القضية الفلسطينية والمقاومة العربية الفلسطينية، التي حولتها من قضية عربية إلى قضية دينية لصالح الكيان الصهيوني الذي إستفاد من هذا التحول في إطار إستراتيجية تهويد كيانه، وبالتالي أصبحت القضية مثار تبادل مصالح ومساومات ورسائل ساخنة أو ناعمة لا تخدم القضية ولا المصالح العربية.
وضاعف من تعقيد القضية الفلسطينية أن هذه الأطراف تبنَّت أو شكَّلت جماعات مسلحة على أساس طائفي بحت، تماهت موضوعيا مع الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية التي تعاملتمع الوطن العربي على أسس طائفية وعرقية وملل ونحل، خصوصاً بعد رحيل جمال عبد الناصر ورؤيته الوحدوية وطنيا وقوميا، رافقتها حملة إعلامية ونفسية في التشكيك بالموقف العربي ومصادر قوته السياسية والعسكرية والإقتصادية، لحساب الإستقطاب الطائفي والعرقي، التي تتوجت هذه الإستراتيجية بما سمي في الإعلام الأمريكي الصهيوني والغربي عموما بـــ(( الربيع العربي))، الذي كان حصاده تدمير الحواضر والعواصم العربية والبنى التحتية ومظاهر الحداثة،وتعميم الإرهاب والطائفية والأثنية، وتقسيم الوطن العربي إلى معسكرين وهميين تحت عنوان ((محور مقاومة وممانعة، ومحور إعتدال وإستسلام))، إنعكس مباشرة على أولويات المواطن العربي الذي تراجعت فيها قضية فلسطين إلى إهتمامات ثانويةتحت ضغط الإنحراف الذي حصل في التعامل الأيديولوجي والإقليمي مع القضية الفلسطينية، التي أصبحت ككرة ملتهبة في ملعب الإتهامات التي توجه حتى لأصحاب القضية الحقيقيين، ما أحدث تشويشاً متعمداً ومقصوداً في البوصلة الوطنية والقومية لدى المواطن العربي الذي داخله الشك مقروناً باليأس من تطورات القضية الفلسطينية، التي تحولت غطاءً للإختراق تحت عناوين طائفية وايديولوجية حينأ، وإرهاباً حصد مئات الألوف من المواطنين على إمتداد الوطن العربي بإسم فلسطين حيناً آخر.
ومع بداية العدوان الصهيوني على غزة، إستفاق المواطن العربي على حقائق مُرّة، فقد إكتفت الأطراف الإقليمية بإستغلال هذا العدوان لتحقيق مصالحها والحصول على نقاط ومكاسب مقابل النأي بنفسها عن أي تدخل كثيرا ما تحدثت عنه بلغة خطابية وحماسية تحت عنوان محور المقاومة أو غير ذلك من العناوين التي تدور حول معنى فضفاض هو ” قواعد الاشتباك” دون الدخول في معترك رد العدوان على غزة، بعد أن تمت عملية إستعارة قواعد الإشتباك هذه من الميدان العسكري وقواعده الصارمة، إلى المتاهات السياسية التي يجد فيها فن التأويل بيئته الخصبة للتحايل على الواقع وإغتصاب الكلمات وتوليدها من حمولات خادعة ومتخمة بالسراب والأوهام، حيث يتمّ الحفاظ على قواعد إشتباك ذات طابع تكتيكي ليس لها تأثير إستراتيجي على المصالح والقواعد الأمريكية ودون الدخول في معترك ردّ العدوان الصهيوني على الشعب العربي الفلسطيني في غزّة، الأمر الذي يطرح على الأطراف المرتبطة إقليميا خيارات صعبة في عملية إتخاذ القرار، إمّا الإنحياز إلى المصالح الوطنية والعربيةوالإنخراط في المعركة بشكل جذري في مواجهة العدوان الصهيوني، أو الدوران في فلكِ المصالح الإقليمية والمراوحة في ظل قواعد الإشتباك المطلوبة إقليميا والخاضعة لتوازنات ومصالح القوى الدولية والرسائل المتبادلة الساخنة بقدر، أو الباردة بنعومة.
وفي ضوء المعطيات الحالية والمنظور الأيديولوجي والاستراتيجي للكيان الصهيوني ومشروعه العدواني وللأطراف الإقليمية ومصالحها، وتزامن أكثر من مشروع عدواني على الوطن العربي، فإن العدوان الصهيوني على غزة والضفة الغربية وجد فرصته التاريخية للمضي في تحقيق مشروع المجرم نتنياهو بإتجاه إحتلال غزة والضفة الغربية من جديد وتصفية القضية الفلسطينية وإعادتها إلى المربع الأول مجرد قضية لاجئين من جهة.. ومن جهة أخرى فإن الأطراف الإقليمية وجدت هي الأخرى أيضاً فرصتها في حرب الإبادة الصهيونية لتحقيق مكاسب ونقاط قوة تضاف إلى ملفات مصالحها لتعظيمهاوالحصول على مكاسب وتسجيل نقاط وأهداف حول الملفات النووية وصفقات الطائرات وغير ذلك من الملفات، وتكريس مواطئ قدم أخرى لإختراق الوطن العربي تحت عنوان فلسطين، والضحية في الحالتين آلاف الشهداء والمصابين وتدمير البنى ومصادر الحياة في غزّة والضفة الغربية، على مرأى ومسمع المجتمع الدولي والأطراف والإقليمية.
فيما يواجه الوطن العربي على إمتداد ساحاته خمسة مشاريع عدوانية في آنٍ واحد متزامنة ومتخادمة: المشروع الأمريكي والمشروع الصهيوني والمشروع الإيراني والمشروع التركي والمشروع القطري الإرهابي، وعليه أن يواجهها مرة واحدة بالأساليب العسكرية تارة أو الدبلوماسية تارة أخرى أو تحالفات الضرورة(عدو عدوي صديقي) تارة ثالثة، وغيرها من الأساليب،التي خلقت خيارات عربية صعبة أمام إمتحان اللحظ الفارقة في تاريخ القضية العربية الفلسطينية والأمة العربية مجتمعة بشكل عام.. وليس لها في هذه المرحلة إلا الوحدة وتحت أي شكل دستوري يفرض العرب قطباً سياسياً وأمنياً وإقتصادياً وإستراتيجيا، وإستعادة المقاومة العربية الفلسطينية الحقيقية التي تمّت سرقتها، حتى تستطيع أن تحمي وجودها المهدد حتى في دفاعاته الداخلية، هويتها الثقافية والحضارية وجغرافيتها وتاريخها ومكانتها بين الأمم.. وما يحدث في غزّة من إبادة للبشر والحجر ليس إلاّ أحد تجليات أهداف هذه المشاريع العدوانية، منفردة أو مجتمعة، ولا فرق في ذلك.