محمد الكلابي
تحـدث الكثير من الباحثين عن العلاقة بين بودلير والرومانتيكيين ونود الحديث هنا عن الدوافع و الأسباب التي مكنت بودلير من تحويل التراث الرومانتيكي الى لون جديد من الأدب أدى بدوره الى ظهور الشعر الغنائي للذين جاءوا بعـد بودلير و سنبدأ الحديـث عـن ديـوان بودلير الشهير ( أزهـار الـشر ) وهـذا الديـوان هـو ليـس مـن شـعر الأعتراف الذاتي في شيء كـمـا قـد يفهـم مـن بعـض أنـواع القـراء و كذلك ليسـت مذكـرات يسجل فيهـا الأديب قصـة حياتـه و آلامـه الكلمـة الشعرية عنـد بودلير لا تصـدر عـن وحـدة تجمع بين الشاعر و القصيـدة كما كان الرومانتيكـون يؤكدون ذلك و يعرفـون الشعر بأنه صوت الشاعر و لغـة الوجدان أمـا عنـد بودلير و الشعر الحديـث فـأن الشعر يعرف بأنـه صـوت الأمة وعمـل بودلير عـلى هـذا الفصـل متأثراً بالكاتـب و الشاعر الأميركي ( أدجـار آلان بو ) الذي كان بودلير قـد تـرجـم له العديد من المقالات و القصص الى الفرنسية و كان (بو) أول مـن فصـل فـصـلاً حاسماً بين الشعر و الشاعر أو بين الكلمـة و القلـب أراد ( بو ) أن تكـون العاطفة المتأججة هي موضوع الشعر ولكنها عاطفة لا علاقة لـهـا بالعاطفة الشخصية أو الذاتيـة أو ( نشـوة القلـب ) كما سماها (بو) أن هذه العاطفة هي نـوع مـن الحساسية الشاملة يسميها في بعض الأحيان ( الـروح) وبودلير يعيد صياغـة رأي ( بو ) النقـدي في فـن الشـعر ليقـول ( أن مقـدرة القلـب عـلى الأحسـاس ليست في صالح العمل الأدبي ) و نستنتج مـن ذلـك أنـه يريد مفهمومـا أخـر و إذا طرحنـا سـؤالاً ، أي نـوع مـن الأحسـاس في صالـح العمـل الشـعري ؟ فـأن الجـواب المستنتج هـو مقـدرة المخيلـة عـلى الأحسـاس وبودلير يفهـم المخيلـة عـلى إنهـا قـوة تعمـل بتوجيـه مـن العقـل ولذلـك ينصح بودلير بالأبتعـاد عـن النزعـة العاطفية الذاتية و الأنصراف الى ( المخيلـة الناصعـة ) التي تستطيع في رأيـه أن تقـوم بواجبـات لا تقـوى عليهـا العاطفة ، هـذه المنطقـة التـي أكـد بودلير وجـوده فيهـا بقوله ( أن مهمتـي تخـرج عـن الحـدود البشريـة) كـما يذكـر في أحـدى رسـائله بأنـه يتعمـد أن يكـون شـعره غير شخصي أي أنـه يـريـد لجميع العواطـف و الأنفعالات الذاتيـة أن تكـون في حالـة حيـاد وهـو بذلك يؤكـد عـلى مـلمـح هـام مـن ملامـح الشعر الحديث إلا وهـو نـزعـة التجـرد مـن الـذات وهـذه النزعـة التـي أكـد عليهـا ( أورتيجـا أي جاسيه ) و ( أليـوت ) و غيرهـمـا أنـه شرط ضروري لصـدق الشـعر و دقتـه و مـع ذلـك فـأن بودلير في نزعتـه هـذه لا يلغي ( الأنـا ) و إنمـا يتحـدث عنهـا بوصفهـا أنسـان يتعـذب بـروح العصر و يعـاني آلامـه و أنـه شـاعـر مـدرك لهـذه الحقيقة و يعيهـا و لذلـك فـأن القصائد الموجـودة للتعبير عـن عـذاب بودلير الشخصي هـي لا تعـبر عـن هـذا العـذاب إلا بصـورة غامضـة وغير دقيقـة.أن بودلير يتعمق في ذاته تعمقاً منهجياً ، ليفتـش عـن كل القيم و الآلام ( فـوق الشخصية ) التي يعانيهـا عـصره ، القلـق ، الضياع و السقوط و أنهيـار النفـس التـي ابحـث عـن عـالم مثـالي تـراه يتدهـور في هـوة الـفـراغ ، وهـو يتحـدث عـن هـذا القلق النفسي الذي يعانيـه تـحـت وطـأة القـدر ، و القلق و القـدر هـما مـن الكلمات الدالـة عـلى فكـر بودلير كـما أن كلـمات ( التركيز و التمركـز) هـما مفتـاح شخصيته و كأنـه قـد أختـار شـعاراً لنفسـه مقولـة أمرسـون (البطـل الـذي لا يشغله عـن التركيز شيء ) أمـا الكلمـة المضادة في ( التفكك) التـي تعنـي الأستسلام و التخـلي عـن القـدر الروحـي و الهروب الى الأخريـن و خيانة التركيز و الوقوع في التشتت وهـذه كلهـا مـن مظاهـر المدينة الحديثة كما كان يؤكـد بودلير نفسـه عـلى ذلـك وقـد عاهـد نفسـه
عـلى حمايتهـا مـن وحشية المدينـة أن ( الأنـا ) عنـد بودلير وعـاءاً يحتـوي العـصر بأكملـه