الورقة المختومة
د. احمد مشتت
حان موعد السفر. لم يكن في حقائبنا الكثير. وضعت في حقيبتي بعض الملابس والمعطف الازرق السميك الذي اشتراه سعد لي من بالة الزرقاء والذي كنت مؤملا انني سأحتاجه في البلاد الباردة. معالخوف والترقب والقلق من الرحلة المصيرية القادمة، كان لدينا أمل. بدون الأمل لايمكنك ان تخطو للأمام خطوة واحدة. ومن الامل كان لدينا الكثير . سرق الطغاة كل حياتنا الا الأمل.
كان أصعب مافي الرحلة في بداياتها اليتيمة تلك هو وداع ولاء. كنا اهله واصدقائه. سنتركه لوحده فيبيت الزرقاء الموحش. سيصحو في الايام المقبلة يحدث جدرانا خاوية. لن تكون هناك سجالات بينهوبين زيدون ونورس و لا سباق محموم على صحن الفاصوليا.
– العب بيهه ولاء راح تاكل التكة والكباب لوحدك
كانت مماحكة اخيرة من زيدون وهو يعانقه ذاك الصباح.
– زيدون دير بالكم ترجعون
رد ولاء عليه بصوت مخنوق
قلت له لتلطيف الجو قلبل قبل ان يبدأ نهر الدموع بالجريان
– ولاء انت خبير خبراء العودة. ماراح نتجاوز ارقامك القياسية.
جاهدنا جميعا ان يكون وداعا قصيرا. حتى امي اشتركت معنا في جعله اقل وطأة على ولاء
– يمه لاتضوج وحدك، ربك كريم ويسهل طلعتك ويريحك
غادرنا بيت الزرقاء الرابعة صباحا. كان موعد اقلاع طائرتنا المتجهة الى بانكوك – تايلاند الساعة السابعةصباحا حسبما فهمنا من قراءة بطاقات السفر.
وصلنا المطار. تلك كانت اول مرة نسافر فيها جوا. اول مرة تطأ اقدامنا ارض مطار. الحرمان من السفركان شعار السلطة العراقية واولى مهماتها الوطنية. والحجة الدائمة هي الحرب. مع اول اطلاقة نار فيحروب العراق التي لم تتوقف كان يظهر مقداد مراد المذيع الرسمي للحروب بقامته التي لاتتسع لهاشاشة التلفزيون وبصوت كرس مبادىء الخوف عند العراقيين واصوله ليقرأ البيان الاول. لقراءة تفاصيلالبيان ينظر الى الورقة التي امامه ماعدا الفقرة الاولى والتي تخص منع السفر كان يقرأها دون الانحناءعلى الاوراق، يتلوها وكأنه قد حفظها عن قلب ، بتفنن في قرائتها وعينيه ترصد كل عراقي ، حتى لو لم يكنهناك صوت يصدر من التلفاز سيفهم الجميع ان حق السفر هو اول ضحايا الحرب.
أسرنا المطار وكنا مثل الطفل الذي ينبهر عندما يحط يديه على دميته المفضلة.
تنازل الخوف تدريجيا امام الانبهار. حاولنا ان نبصر ابو تيسر في داخل القاعة الرئيسية لكننا لم نره. كانهناك مسافرين قلائل في هذا الوقت من الصباح والحركة هادئة. جلسنا على مصطبة وتمشى نورسوزيدون لاستكشاف المكان.
كانت امي الوحيدة بيننا من وطئت ارض مطار في السابق. سافرت في عام ١٩٨٩ العام الذي تلى نهايةالحرب مع ايران عندما فتح السفر لفترة قصيرة واستحصلت لها انا فيزا من السفارة البريطانية في بغدادوذهبت لزيارة اخوتي في لندن. عام ١٩٨٩ كان مثل حلم مر سريعا واغتيل بشكل اسرع في دخول العراقباتون حرب اخرى وتبخرت احلامنا جميعا بالسفر. كنت مازلت حينها جندي مكلف طبيب وبدل ان اتسرحمن الجيش مثلما توقعنا في عام السلم الوحيد ذاك تم سحلنا الى مغامرة غير مجدية في جنوب البلاد.
قالت امي:
– مطار بغداد احلى من هذا
تكلمت بنبرة العارف والمجرب.
وسألتني:
– چا وين ابو صخام ( تقصد ابو تيسير)
اجبتها محذرا
– ماما حتى اذا شفناه مو المفروض نحچي وياه، او نبين انو احنا نعرفه هاي تعليماته.
بعد ظهور موظفي شركات الطائرات على مكاتب التدقيق ذهبت الى لوحة الاعلان عن الرحلات المغادرةلاعرف في اي مكتب نحصل على بطاقات البوردينك– الدخول
بدات بقراءة اللوحة الكبيرة
الطائرة المغادرة الى بانكوك الساعة ٧ مساءا
قرأتها عشر مرات وركزت على الوقت ولكن هذا لم يغير شيئا
اذاً قد اخطأنا قراءة وقت المغادرة على بطاقات السفر
عدت الى البطاقات وتاكدت تماما اننا وصلنا الى المطار ١٢ ساعة قبل موعد مغادرة الطائرة. فات عليناتمام ان موعد اقلاع الطائرة هو الساعة السابعة مساءا وليس صباحا.
– نبقى هنا الى ان تصير بالسابعة العصر
اقترحت
قال الحكيم زيدون:
– اربعتنا ونبقى هنا لمدة ١٢ ساعة تسليم كامل بالجريمة، بقائنا هنا شبهة
اقترح نرجع لعمان ونرجع العصر
تم التصويت على هذا الاقتراح ٣ ضد واحد ( انا)
وقررنا العودة.
أي حظ
ولكن مثلما قالت امي:
– بيهه صالح يمه
جرجرنا حقائبنا و صعدنا الباص من المطار عودة الى مركز عمان في العبدلي.
على عكس ماتوقعنا لم نشعر بالاحباط ابدا. على العكس ضحكنا من الموقف واحسسنا ان هذه المغامرةالصغيرة هي خسارة صغيرة و ستقربنا من المغامرة الاكبر. ونحن جالسون في الباص تحدثنا دون خوفمن القادم. ادركنا ان المطار ليس دائرة مخابرات
سنسافر مثل البشر الاخرين
لاداعي للقلق
وصدح صوت نور المهنا في الباص وتحالف مع شمس صباحية ساحرة لبث طمأنينة نادرة في نفوسناالمعذبة وثقة اننا قريبين جدا من تحقيق الحلم الصعب.
كان من السهل الحصول على غرفة ليوم واحد في فندق رخيص نسبيا في العبدلي. لم نكن قد افطرنابعد. واقترح زيدون :
– راح اجيبلكم غداء يسويكم قراصنة لاتهابون المطارات على عناد ولاء
ذهب زيدون ونورس وعادوا بوليمة من الدجاج المشوي والمسبحة والخبز الحار.
اكلنا بشهية لم نعهدها طوال فترة بقاءنا في الزرقاء
ونمنا بعدها
غفونا
وحلق شخير المناضلين في الغرفة الصغيرة.
حين حل المساء صحونا واخذنا الباص عودة الى المطار، كان مزدحما اكثر من الصباح وصوت الاعلانعن الرحلات المغادرة والقادمة لايتوقف.
ضعنا في زحام المسافرين.
لم يكن هنال اي اشكال عند مكتب الجوازات.
استحصل لنا ابو تيسير العبقري فيزا للسفر الى تايلاند على جوازاتنا العراقية.
وكانت الخطة اننا نغادر عمان بالجوازات العراقية وندخل بانكوك بالجوازات الجديدة.
في الطائرة كان علينا ان نخبىء الجواز العراقي بمجرد الصعود واتفقنا جميعا ان ندحسه تحت اقدامناداخل الحذاء، مما جعل الرحلة الطويلة الى بانكوك صعبة ومتعبة
اهترأت اقدامنا من حشر الوثيقة العراقية العريضة تحت باطن القدم.
في الطائرة عاودنا القلق مرة اخرى
كانت مقاعدنا في وسط الطائرة الضخمة ووضعنا امي بيننا وحاولنا ان نهدأها ونعدها للخطوة المقبلة.
لم نتحدث كثيرا مع بعض خوفا من الاذان المتلصصة وحاولنا ان ننام وفشلنا جميعا في جعل ذلكممكنا
استغرقت الرحلة اكثر من ثمانية ساعات
وصلنا الى بانكوك صباحا
كان مطار بانكوك شاسع المساحة ومكتظ بالمسافرين. كان اكبر بكثير من مطار عمان وفيه محلاتومطاعم كثيرة
ها نحن نقدم على محطة اخرى من الرحلة المستحيلة ونحن لانعرف ماذا سيحدث بعد ساعة
كان السير على ارض المطار يذكرنا بالجوازات العراقية المخبئة تحت اقدامنا ويذكرنا بخطورة مانحنمقدمين عليه.
توزعنا على مكاتب الدخول حتى لا نثير الشك
وحسب خطة ابو تيسير من ينفذ من مكاتب تدقيق الجوازات عليه ان لايفكر بالاخرين
⁃ فكر وحدك شلون تتصرف بشكل طبيعي لايثير الشك ومن تقدم الجواز للضابط انسى انكعراقي قصدي لاتخاف وتبين هذا الخوف واذا انكشف احد الباقيين ماعليهم بيه.
كانت هذه هي التعليمات الواضحة.
تقدمنا انا ونورس من مكتبين متجاورين وكنا نعلك لكي نبدو طبيعين ولكي لا نمنح ضابط تدقيقالجوازات الفرصة الذهبية للاطاحة باحلامنا الهشة.
خرجت قبل نورس دون اية اسئلة من الضابط لم يخذلني جوازي السويدي ومررت من المكتب المخيفدون خسائر تذكر وكنت احسب الخطوات واحدة واحدة وكأني امشي على ارض متخمة بالالغام.
ولمحت وسط هذا الارتباك نورس يخترق ايضا حاجز الشكوك وابتسامة انتصار لايمكن اهمالها علىوجهه.
صرنا انا ونورس خارج حابة الصراع الان احرارا اكثر ممكنا ونحن في الزرقاء
قريبين جدا من تحقيق الهدف
تعانقنا احتفالا بالمرور المؤقت
وقررنا انت ننتظر خروج امي وزيدون
انتظرنا في مقهى صغير في صالة الوصول ونحن لم نصدق بعد اننا نجحنا في الامتحان العسير.
مرت ساعة كاملة ولم يظهر زيدون ولا امي
ساعة كاملة ونحن نضرب اقدامنا في الارض قلقا
طارت فرحة الانتصار
لايمكن ان يتاخرا كل هذا الوقت مالم بحصل طارىء ما
ولعبت الاسئلة مرة اخرى في الرؤوس المتعبة
أُرهقت اعيننا وهي تفتش البشر المسرعين وهم يغادرون المطار
لمحت بجهد ابا تيسير من بعيد وحينما اقترب كانت ملامحه غير مطمئنة
ولم ينتظر طويلا قبل ان يبدأ نشرة انباء الكارثة
⁃ يابه امكم وزيدون انحجزوا بالمطار
طلبنا منه اعادة ماقال ببطء كي نستوعب حجم المصيبة.
اعاد علينا انباءه السيئة وبصوت لايقبل الشك.
دارت بنا الارض الملغمة ولم تقف
التصقت اجسادنا الواهية على كراسي المقهى واصبح الجمهور في صالة المطار وابو تيسير الذي لفهالصمت محرد اشباح