رفقاً بالمسكارة / هيثم الزبيدي

رفقاً بالمسكارة / هيثم الزبيدي

 

هيثم الزبيدي / منقول عن العرب

عام 1992، وصلني شريط فيديو من تلفزيون بغداد يؤرخ مرور عام على مذبحة ملجأ العامرية، عندما قصفت القوات الأميركية ملجأ في حي سكني غرب بغداد وقتلت المئات من المدنيين. حمل الشريط عرضا مأساويا. لكن مخرج الشريط لم يكن موفقا في اختيار المذيعة التي قدمت الشريط وعلقت عليه في مقاطع فاصلة. اختار المخرج أجمل مذيعة عراقية في حينها، وأفضلهن صوتا وأداء. لكن من الواضح أنه فاجأ المذيعة بموعد التصوير، إذ كانت زينتها معدة لبرنامج عادي. كان من الواضح أنها ذهبت لكوافير الأستوديو ومرت على فريق المكياج الذي جهزها لشيء مختلف تماما عن تقديم برنامج يستذكر جريمة بحق الإنسانية.

تمر ثلاثون سنة، والفضائيات الإخبارية اليوم تملأ المشهد البصري في العالم العربي. مقدمات البرامج اليوم يعكسن آخر صرعات الموضة وتصفيف الشعر وإعادة إنتاج الوجوه باللمسات التجميلية المؤقتة والدائمة. الحواجب تاتو مرسومة بزوايا حادة، والشفاه منفوخة بأحجام تتجاوز التجميل الهادئ، ثم يأتي دور أحمر الشفاه ليزيد من المساحة اللونية في الوجه. اختفت الكثير من الخطوط الوجهية بين الفيللر والبوتوكس. الكحل والمسكارة يغيران شكل العينين والرموش الطبيعية أو المركبة لتصبحا تقدحان.

هنا أصف ما أراه ولا أسجل اعتراضي على إبراز الجمال الأنثوي لدى مقدمات البرامج. التجميل من حق كل امرأة، وهو من خياراتها ومن أسس حريتها الشخصية. من منا يكره الجمال؟

لكن مقدمة البرامج الإخبارية تمارس وظيفة من نوع آخر، خصوصا بعد أن تجاوزت المهمة أدوار قراءة الأخبار. لم تعد هذه المهمة تتعلق بتقديم الخبر ضمن نشرة، ومن هنا تغير المسمى من مذيعة إلى مقدمة برامج. مقدمة البرامج ركن أساسي في قدرة المنبر الإعلامي الفضائي على اجتذاب المشاهد والإبقاء عليه لصالح هذه القناة أو تلك. الحوار مع الآخرين هو جزء من توصيف المهمة اليوم.

هنا يأتي سبب الاعتراض. المشهد الآن يغرق بالدماء بما يحدث في غزة. لا أريد أن أقول إن من غير الطبيعي أن تكون مقدمة البرامج تتمكيج وتتزين وتلبس وكأنها ذاهبة إلى عرس ابنة عمها. ولكن رسم الوجه الذي كان يمكن أن يمر في تقديم موضوعات يومية عادية، لا ينفع بحاله هذه وهو يتحدث عن مأساة دامية مثل غزة. لا تستطيع مقدمة البرامج، وهي تدير الحوار مع سياسي أو خبير عسكري، أن تقطب حاجبيها لأن شكلهما سبق وأن تم تثبيته بالتاتو. ولو أضفنا البوتوكس هنا أو هناك على الوجه لأغراض عمرية أو جمالية، فإن التعابير كلها ستختفي عن وجه مقدمة البرامج مهما حاولت اصطناع حزن أو غضب. الاصطناع جزء من عمل مقدمي البرامج، مثلهم مثل الممثلين. كيف يتم ذلك بعد فقدان السيطرة على عضلات الوجه بحقن البوتوكس؟

هذا الإعلام الغربي أمامنا. مقدمات البرامج يحافظن على شكلهن الطبيعي ويضعن لمسات مكياج معقولة وهادئة. كثير منهن بجمال أقل من المتوسط. هو خيار متعمد للقنوات كنوع من المساواة بين الجميلات وغير الجميلات أسوة بالانتشار الطبيعي للجمال بين النساء. يرتدين ملابس هادئة ويتجملن بالحد الأدنى من الزينة وتصفيف الشعر. هذا نفسه الغرب الذي اخترع نفخ الشفاه والبوتوكس وهو صانع المكياج الأول ومبتكر تصفيفات الشعر المختلفة وأبو الأزياء. ما لمقدمات البرامج فيه لا يبالغن بكل هذا؟

لا نريد مقدمات برامج انفعاليات مع الحدث، على الأقل منعا أن لا تسيل المسكارة مع الدموع. ولكن نحتاج إلى عودة الهدوء والصفاء لوجوه مقدمات البرامج ليقمن بدورهن الصحيح في التفاعل مع الأحداث، العادية منها والكبرى كما نشهد اليوم. شيء من الاعتدال.

(Visited 37 times, 1 visits today)

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *