ارض الكوابيس

ارض الكوابيس

وانا نائم في خلفية سيارة إلاسعاف، في الفسحة الوحيدة المتبقية من
فضاءها المزدحم بيطقات مضمدي الوحدة الطبية وصناديق الادوية.
وانا غارق في لحظة ارهاق جسدي غير مسبوقة بعد ان امضينا ثلاثة ايام
في معركة ضارية من اجل استرجاع قمة جبل اخذت من الجيش في
اللحظات الاخيرة قبل اعان القيادة الايرانية على موافقتها على وقف الحرب.
وانا محاصر في جسدي الذي تضاءل حد الاختفاء في عتمة ليل السليمانية
وراسي الهشة الذي تفادى شظايا وقذائف الايام الثلاثة، رأسي الذي
سقط شبه ميت على وسادة من بساطيل وخوذ من فقدناهم من جنود
السرية الاولى التي ابيدت حتى قبل ان تصل حافة الجبل.
وانا مبلل بعرق الحرب وقميصي العسكري الذي حجب الهواء عن رئتي
الصدئة من دخان القذائف الذي لم يتوقف. وانا على وشك الدخول الى
مملكة الاحام والهروب الى فنتازيا تنقذني من جنون الاعوام الثمانية
من عمر الحرب.
امتدت يد خشنة وهزت كتفي: دكتور.. دكتور اكعد.. الآمر يريدك.. دكتور الله
يخليك.. الآمر جدا عصبي ويريدك.. كان هذا صوت سام مراسل آمر الوحدة.
شكد الساعة؟ كان هذا اول مانطقت به. لم اكن متاكدا ان كنت حيا ام
ميتا. اردت ان اعرف الوقت لانه بدا لي الحقيقة الوحيدة في ضباب اللحظة.
اجاب سام بيأس ليس غريبا عليه: دكتور بالثنتين الصبح، الله يخليك
تعال وياي، الآمر كال جيبه هسه… وطلع المسدس وحطه كدامه.
كان سام يتحدث مرتجفا من الخوف الذي تسرب لي، نهضت من سباتي
وزحفت على اثاث المفرزة الطبية الفاخر واصطدم راس بسقف عربة
الاسعاف، كنت أنزف من الخوف، لم اسأل سام عن تفاصيل الرعب الذي
ينتظرني. هبطت من حلم لم يبدأ الى ارض الكوابيس.
مشيت خلفه، كان سام يقرأ آياتٍ قرآنية احسست وانا اسمعها مقدار خوفه
علي، ونحن نقترب من مقر الوحدة الذي بني على عجل بعد انسحاب
الوحدة من معركة خاسرة وباهظة الثمن، بدأت أسمع قذائف الوعيد
تنطلق من فم القائد الجنرال، لم يكن قاموس شتائمه بحاجة الى مؤثرات
صوتية، كان الجنرال وكرشه المتدلي قرب مسدسه على الطاولة اشبه
بممثل نسي حواره في اهم مشهد في المسرحية فقرر الاستعانة بذخيرته
الحية، وقفت امامه في عتمة كاملة، كان هناك ضوء فانوس خافت، نهض
من كرسيه، فغطى ظله على شحيح الضوء القادم من الزاوية.
قال: اعدمك، انت سبب خسارتنا للمعركة اليوم، اعدمك بدون محاكمة،
اليوم. واحسست بلعابه يهدد الهواء الذي كنت بأمس الحاجة اليه.
بعد 10 ساعات من التحقيق تأكد للجنرال ان ليس لي علاقة بخسارة
المعركة العسكرية، كنت قد اعطيت جنودا جرحى كثيرين نزلوا من
جبل الصدام استراحات في مقر اللواء الخلفي، وارسلت جرحى اخرين الى
مستشفى السليمانية. كانت تهمتي انني لم أعيد أي جندي ليكمل مسلسل
الموت على الجبل.
هذا كان سبب اتهام امر السرية الاولى لي على انني السبب المباشر في
تسرب الجنود من المعركة.
دافعت عن موقفي واتيت بالجنود الجرحى وكانوا طابورا طويا من
المنهكين. حقق القائد بدوره مع كل واحد منهم ليتأكد انه ليس متمارضا
واستجوب جنود المفرزة الطبية وضباط الوحدة ودامت هلوسته الصباح كله.
عدت الى سيارة الاسعاف حيا ارزق واتنفس، وشهدت نهاية الحرب المنسية.
الان وانا في اروقة المشفى في لندن مازلت اسمع صوت سلام الخائف المرتجف:
دكتور..
يريدك الامر..
اكعد..
دكتور..
الان ابتسم..
لان ارض الكوابيس لم تصادر صوتي…

(Visited 5 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *