د. احمد مشتت
وصل ولاء الى بيت الزرقاء حوالي الثالثة فجرا ويقسم كلما تذكر لحظة وصوله تلك انه طرق الباب الحديديطرقة واحدة خفيفة وحتى قبل ان يكملها فتح الباب بشكل سحري.
كان زيدون من فتح الباب
وكأنه كان بانتظار عودته السريعة
وكأنه اختبا خلف الباب كل الليل بانتظار عودة الابن الضال.
هلو ولاء
استقبله وكأنه عائد للتو من حفلة عرس احياها مع فرقته يوم جمعة.
اغلق الباب خلفه
الجميع نيام
لم يتبادل زيدون وولاء اي حديث حول المعركة الطاحنة التي خرج منها بشروخ كثيرة في ذاكرته.
مضى الى فراشه الذي بقي كما هو مثلما غادره.
لم يغير نزلاء بيت الزرقاء فراشه
كانوا جميعاً متيقنين من عودته الخائبة.
نام بملابسه وبمعطفه الثقيل الذي منحه حماية عظيمة من وحشة البرد.
عندما استيقظت امي صباحا ورأته مطروحا على فراشه صاحت على زيدون: –
– يمه زيدون گوم جيب خبز للريوگ
هذا المسكين ولاء راجع واحنا ماحسينه بيه.
نهض زيدون من فراشه
– اصلا اني مااظن انه هو سافر اساسا
واضاف نورس حين فهم قصة العودة الان:
– شبساع رجع،
وافاق سلام وكذلك انا
تجمعنا حول ولاء الذي لم يزل غافيا
– شوفه شطوله وشعرضه ومادبرهه
اشعل زيدون حماسة المجتمعين
– حتى سلوفينيا مادبرهه
نورس اراد ان ينتقم من عشاءات ولاء وزيدون الفاخرة بعد حفلات الاعراس
– اكيد لو ضيع الجواز لو تعارك ويه احد
لم يصمد العائد امام هذا المد الجماهيري الذي كان يزحف نحوه.
⁃ ولكم شبعت كتل من الشرطة الايطالية
امي كانت الوحيدة التي تعاطفت معه بشكل واضح
– يمه اسم الله عليك
الباقين بضمنهم انا كنا نريد ان نعرف تفاصيل الحكاية.
حين انتهى الراوي من قصة طرده من روما وتفننه في وصف الماردة الجميلة التي انقذته من الشرطة الاردنيةفي ممرات مطار عمان، كنا قد استنتجنا ان ولاء المسكين قد مر بايام صعبة للغاية.
وللتخفيف من تاثير الحادثة عليه استمرينا بالمزاح معه.
– يعني الاتضرب الضابط الايطالي كلة
انت عدنان القيسي!
ساله سلام غير مستوعبا تلك الانعطافة الشرسة بالاحداث تماما لانه لم يكن يعرف ولاء مثلنا.
– شسوي اذا اني غافي على الكرسي دااحلم بنسوان سلوفينيا وهجم علي هذا الايطالي بدون مقدماتويريد ياخذ جوازي ويضربني كأني حشرة
ادگ له تحية مثلا
– وگعت سنونه لولا؟
سال نورس
– لا بس خشمه اتعدل لان كان اعوج
– ادري انت باعدادية الجمهورية تضرب كلات
هناك اسلوب حضاري للتعامل
تفلسف زيدون قليل وهو يساعد امي في تحضير الفطور.
– چا همه الشرطة الايطالية اسوأ من الانضباط العسكري مالتنا ايدهم والراشدي والعصا والنوب گوةيحچون انگليزي وتعال تفاهم وياهم.
– عفيه بالبطل هسه انت ممنوع من السفر للعراق العظيم وايطاليا العظمى، بالسفرة القادمة يابلد راحيحظرك؟
صمد ولاء امام تحدياتنا له
– لو ما نادية چان اخوكم يلهم تراب بطريبيل العزيزة. بس الحكمة الالهية رجعتني للزرقاء حتى اطمأنعليكم لان انتم بدوني بصراحة تتيهون بهذا العالم.
⁃ طبعا زيدون بدونك شلون ياكل كباب وتكة
وجد نورس الفرصة سانحة مرة اخرى للانتقام من استثناءه من غزوات الليل للمطعم الفاخر في شارعالسعادة
بعد الفطور خرجنا جميعا الى المدينة.
ضحكنا كثيرا ورغم ان ولاء كان يأن من الوجع والتعب لكنه نسى برفقتنا الوجوه الغليظة التي صادفها فيمطار روما. وأرجأ التفكير بخطوته القادمة. هو يعرف ان هذا التأجيل سيكون مؤقتا جدا ويعرف انهسيستفيد من فشل هذه التجربة للتخطيط بشكل محكم لوجهته القادمة.
بالنسبة لي ولعائلتي لم يطرأ اي شئ جديد بشان السفر.
ابرق لنا اخي سعد من لندن انه سيأتي لزيارتنا في الاردن وكان هذا الخبر كفيل بنشر السعادة في بيتالزرقاء.
غادر سعد العراق يوم ٢٥ من شهر كانون الثاني من عام ١٩٧٩ اي قبل ٦ اشهر من استيلاء صدام حسين علىاعلى موقع في السلطة في العراق. ولكن البلاد دخلت نفقا مظلما قبل هذا التاريخ بحوالي تسعة اشهر بدءامن انفراط عقد الجبهة الوطنية ( بين البعث والشيوعيين) في اذار من عام ١٩٧٨.
حينها بدات حملات تصفية منظمة للشيوعين والمستقليين وكل من هو غير بعثي كان معرضا للاعتقالوالاختطاف او القتل.
سعد كان يعمل في مختبرات مصفى السماوة الذي كان من اهم المنشآت النفطية في محافظة المثنى
مدير المخازن في المصفى الرفيق مثنى عبد الجبار كان هو ايضا المسؤول الامني رقم واحد في المشروع.
الاستاذ الذي كان الجميع يتحاشاه لقدرته الفائقة وبراعته في ايذاء اعداءه، والكل كان عدوه الى ان يثبتعكس ذلك. كان يدير المصفى كأنه مؤسسة امنية بشغف اثار اعجاب مسؤوليه. واخذ على عاتقه دورا مهمافي منتصف عام ١٩٧٨ في تصفية الشباب المناوئ للحزب والثورة.
لاحظ الموظفون ان كثيرا من زملائهم بداو بالاختفاء
تاتي سيارات يقودها رجال امن ظهرا
يتم اقتياد المطلوبين اثناء خروجهم بعد نهاية الدوام. ولا يعد احد يسمع اخبارهم بعد ذلك.
سعد كان محظوظا.
في احد الايام اخبرته صديقته من ايام دراسته في معهد النفط مريم التي تعمل في مكتب المدير والتي كانتعلى علاقة طيبة معه انها سمعت الرفيق يذكر اسم سعد ضمن قائمة المطلوبين الذي يجب تصفيتهم ذلكاليوم ظهرا.
– جايين ياخذوك الساعة ١٢
قالت له هامسة وهو يعمل في المختبر واختفت.
لم يتردد سعد، ذهب الى مسؤوله في العمل وقال له انه مرض فجأة وان الما في معدته بسبب قرحة قديمة هاجعليه واراد الاستئذان للذهاب الى الطبيب.
خرج مسرعا من المصفى وتحاشى الذهاب الى كرڤان اقامته وسار لمدة ٤٠ دقيقة عبر طريق صحراويللوصول الى الشارع العام. كان هدفه بلوغ محطة الباصات في مركز مدينة السماوة للاتجاه الى بغداد.
في المحطة التقى صدفة بزميله يلدا الاشوري الذي كان عائدا من الاجازة للالتحاق بعمله في المصفى. كانسعد يعرف ان يلدا شيوعيا.
اخبره ان من الافضل له ان لايذهب الى العمل لانهم سيكونون بانتظاره ومن الاسلم ان يعود الى اهله.
صعدا الباص المغادر الى بغداد.
حتى هذه اللحظة يدين يلدا بحياته الى ذلك اللقاء المفاجئ في محطة باصات السماوة والى سعد الذيانقذه من مصير غيب الكثيرين غيره.
في الايام التي تلت ذلك كان سعد واخي الاكبر رعد يغادران البيت فجرا ويعودان بعد منتصف الليل خوفامن اعين رجال الامن الذي كانوا يحتلون كل زاوية في الشوارع والدرابين.
اصبح واضحا ان حياة أخي سعد مهددة رغم انه لم يكن شيوعي التنظيم ولكن احدهم اتهمه بذلك في تقريرشامل وكامل وصل الى منظمة الحزب في قطاع الدور الحكومية في مدينة الثورة وقبل ذلك الى منظمةالحزب في مصفى السماوة حيث يعمل.
صدر حكم السلطة عليه حتى قبل ان يعطى الحق في الدفاع عن نفسه.
كانت ابادة الانسان في تلك الاشهر من عام ١٩٧٨ في العراق تعد عملا وطنيا خلاقا.
– لازم تطلع من العراق
كان استنتاج رعد بعد ليلة مؤرقة
– وتطلع بالايام الجاية.سعد ماكو وقت.
كالعادة لم يكن لدى سعد جواز سفر. وللحصول على ذلك كان عليه ان يستخرج ورقة رسمية اولا من الادارةفي مكان عمله تسمح له بالسفر.
عاد الى السماوة
نعم عاد اذ لم يكن لديه خيار آخر. بعد وصوله الى مكان اقامته هناك اتصل بصديقه في العمل ابراهيمالنجفي وقال له انه يجب ان يعود الى بغداد سريعا بسبب مرض والده. وطلب منه ان يتصل بصديقته مريمفي مكتب المدير للحصول على الورقة الضرورية لاستخراج جواز السفر.
عرفت مريم في اليوم الثاني بوصول سعد عن طريق ابراهيم. ولم تتردد لحظة واحدة بمساعدته حتى لوعرضها ذلك للخطر.
كتبت بخط يدها طلبا للمدير العام يسمح لسعد بالحصول على جواز السفر ووقعت اسفل الورقة باسمه.
دخلت على مكتب المدير وبيدها اضبارة كبيرة تحوي اوراقا كثيرة اختبات بينها ورقة سعد التي تحتاج الىختم وتوقيع المدير.
– استاذ عدنا طلبيات مستعجلة محتاجة توقيعكم
كانت خائفة لدرجة نست معها الخوف اذ لم يعد ذلك مهما بعد ان استقرت حزمة الاوراق على الطاولة ولانالخوف كان الاحساس الوحيد الذي لازمها منذ دست الورقة في اضبارة البريد.
كان المدير ممسكا بسماعة الهاتف بيده اليسرى
يحادث احد المسؤولين في المنظمة الحزبية
عرفت مريم ذلك عن طريق سماعها لكلمة رفيق ورفاق ونبيدهم على بكرة ابيهم.
وضع السيجارة التي شغلت يده اليمنى جانبا وبدا بانزال توقيعه المهم على الاوراق بعد ان تشرح له مريمباختصار محتوى الورقة. توقفت المكالمة الحزبية حينما وصلت مريم الى ورقة سعد. توقيت قاتل لم تكنبحاجة اليه.
عائدا من مكالمته المهمة منتفخا بانجازه الكبير في مد منظمة الحزب بقوائم المشاغبين من الشباب عاد المديربكل انتباهه الى بقية اوراق الملف امامه.
– هاي شنو؟
سأل بلهجته الصارمة
وعاد يشغل يده اليمنى ببقايا سيجارته
⁃ هاي شنو ؟ سال مرة اخرى وانتظر اجابة من مريم التي بدات تسعل متظاهرة باختناقها من دخانسيجارته للتغطية على حيرتها وذهولها امام هذا السؤال الذي خرج يبحث عن اجابة من بين اسنان هذاالرفيق الذي اصبح فجأة وحشا هائلا بحجم الغرفة.
⁃ يتبع