الورقة المختومة ..  أيام عمان الجزء 4. د. احمد مشتت

الورقة المختومة .. أيام عمان الجزء 4. د. احمد مشتت

د. احمد مشتت

غادرنا فندق السعادة في وسط عمان برفقة زيدون وركبنا الباص الى مدينة الزرقاء.
وصلنا البيت الذي تسكنه العائلة حوالي السابعة مساءا.
احتلت العائلة الطابق الاول من منزل يتكون من اثنين يقع في حارة ضيقة.
طرق زيدون الباب الحديدي الازرق وجاء صوت امي من الداخل:
– منو
– امي افتحي الباب، منو يعني مندوب الامم المتحدة جاي يزورنا
اجاب زيدون بصوت ساخر
فُتِحَ الباب
اختبأتُ جانبا كي أدع زيدون يدخل
وحينما همت امي باغلاق الباب وهي تعاتب زيدون المشاكس
‏a– وين رحت وظل بالي يمك؟
امسكت الباب
وقلت
– حجية عندكم مكان نبات بي
– يمه احمد
تنهدت امي واستجمعت ماتبقى فيها من طاقة سلبتها الايام العصية وتراجع جسدها الضئيل الى الخلف محاولا التشبث باي سند غير مصدقة
انني اقف هناك على عتبة الباب حيا ارزق.
زيدون ساعدها على ان تقف مرة اخرى
وعبرت ذراعيها المسافة الفاصلة بين الشك واليقين لتلمس وجهي منهارة على فراش الحزن الذي احتضن روحها الملتاعة كل هذه الاشهر الماضية.
جاءها زيدون بقدح ماء
هدأت واجلستني قربها. للامهات رائحة تشبه رائحة الاطفال حديثي الولادة، لاشيء يشبهها
رائحة تاخذك الى مركز الطمانينة في الكون
تشعر انك محمي ولا حتى صاروخ نووي بمقدوره ان يخدشك.
– يمه انه من عفت العراق وانت بقيت انفطر گلبي نصين.
مازالت دموعها هي التي تحاورني
لاول مرة اشعر بالدفء منذ قدمت الى الاردن
عظامي اصبحت طرية مثل رغيف خبز خارج من التنور توا
ولاول مرة منذ مغامرتي مع دائرة جوازات الرصافة يغادرني الخوف و لايتجرأ ان يقترب مني
– البيت اظلم من غيرك والدنيا سودة
ورفعت كفها اليمنى طرف الفوطة السوداء الى وجهها تجفف انهار الدموع.
خروج امي واخوتي زيدون ونورس من العراق نهايات آب عام ١٩٩٤ كان مغامرة لايقدم عليها الا من كان له ارادة وهدف واضح.
بعد وفاة سعدون الكل توقع العكس ان مشروع السفر الذي بدانا الاعداد له مند بداية العام سيوضع على ركن التاخير او انه يلغى تماما
في مجلس فاتحة سعدون وضعت امي على كرسي الاتهام من قبل الاقرباء
– شلون تركتيه يروح ويسافر؟ هاي تاليتهه
السؤال الجوهري الاوحد الذي ظل يدور في احاديث الناس في المجلس. حتى الاشخاص القريبين من العائلة والذين كانوا على دراية بمشروع السفر غيروا مواقفهم السابقة
واصبحوا الان ضده
– وين رايحين بعد، ظلوا بهذا البلد حالكم حال الجميع
صار شعار الكل باستثناء خالي عبد الحسين
الذي على العكس اصر على ان نستمر.
في الليلة الاولى في مجلس الفاتحة و بعد ان انفض المعزيين قال لي:
– دكتور بس تخلص الاربعين تسافرون
مالكم مكان هنا وانت تعرف زين. زيدون ونورس اذا بقوا يروحون للجيش وابن صبحة مراح يبطل حروب، اخذ امك واخوتك وهجوا.
خالي عبد الحسين كان الصخرة التي استندنا اليها امام تلك العاصفة التي باغتتنا في منتصف تموز
اما امي السيدة الخبيرة بالمحن لم تنسَ وهي في قلب الفاجعة انها خسرت ابنا وعليها ان تحمي من تبقى
هاهي الان امامي في بيت الزرقاء وطني الذي تركته قبل ايام.
كان البيت عبارة عن غرفة واسعة واخرى صغيرة
وحمام
الاثاث الوحيد هو فرش النوم
ليس هناك اسرة
كان هناك موقد صغير للطبخ
تم تاجير البيت خاليا من الاثاث
هناك شعور وانت تدخل هذا البيت ان الكل على وشك السفر في اية لحظة
وخلو البيت من اية مظاهر للحياة لاشك سيساعد في هذا الرحيل دون تاخير
لن بحتاج احد ان يودع هذا المكان، فهو مؤقت وعاري من اية دلالات عاطفية.
احتضنت امي سلام
وجلسنا على الارض
لم يكن اخي الاصغر نورس وصديقنا ولاء الذي كان يشارك العائلة السكن في البيت بعد
– ولاء ونورس راح ينحرمون من هذا الغدا الملوكي
قال زيدون وهو يجلب بعض الصحون من الرف القريب من الشباك
رائحة مرقة الفاصوليا التي طبختها امي احتفالا بوصولنا الى بر الامان، اعادت الى الجميع بعض الاحساس بالجاذبية الارضية بعد ان حلقنا جميعا في سقف مشاعر الفراق القاسية منذ وصولنا
– الله ياامي فاصوليا؟
شگد مشتهي آكل شي من ايدچ
اطلقت هذا التصريح الخطير وانا انظر الى حقيبة سلام
– سلام جنطتك قتلتني واني اصعدها على الدرج
شنو ماليهه
اشتكى زيدون وهو يغسل الجرجير
– هاي حقيبة المؤونة
قلت نيابة عن صديقي وهو يسحب حقيبته الثقيلة الى الغرفة الصغيرة.
بدأنا ناكل
البخار الذي ارتفع من قدر الفاصوليا اشاع جوا عراقيا حميما في في الغرفة التي ستستحق عن جدارة لقب المحطة الاولى في الغربة فيما سياتي من الايام
يتبع

(Visited 6 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *