” “موجود هناك” Being there / د. عادل جعفر

” “موجود هناك” Being there / د. عادل جعفر

“Being ther
بقلم :عادل جعفر /استشاري طب نفسي

وسط أجواء مشحونة بالقلق والتوتر الجديد المصحوب بظهور الحمى النزفية في العراق و تفشيها و خوف الناس من شراء اللحوم الحمراء،قررت يوم أمس ان أشاهد أحد الأفلام الكوميدية القديمة و ذلك في نهاية يوم عمل مضني، يوم كان طويل و قاسي أستمر العمل فيه من الثامنة صباحًا الى التاسعة ليلاً ،بحثت عن حاجتي في تطبيق سينمانا لأمتُع نفسي ساعتين قبل ما أستسلم للنوم، و قد جذب اهتمامى و فضولى احد الافلام بسبب عنوانه و هو فيلم (being there) أي “موجود هناك “!!!
هذا العنوان مر امامي عدة مرات سابقا لكن في مجال آخر و هو مجال الفلسفة و علم النفس.
المطلح الفلسفي (being there ) مترجم حرفياً من اللغة الألمانية( Daseins) و يعني” موجود هناك”
و الذي أبتكره هديجر ليدل على وجود الأنسان في العالم ،وعلى أي نحو يوجد هذا الإنسان .فمصطلح Dasein يقسم الى مفردتين
‏ Da = there
‏Sein = being
وهناك مدرسة في التحليل النفسي تسمى بهذا المصطلح وتعرف باسم مدرسة تحليل الموجود الإنساني أو Daseins analysis، وهي تعارض مدرسة فرويد Freud  في التحليل النفسي، تأتي لتحليل الموجود الإنساني أو أحوال الموجود الإنساني في العالم من حيث هو موجود مَرْمِيٌّ في هذا العالم، فهو موجود مقذوفاً به في العالم. وهذا حال من أحوال الوجود الإنساني فكلنا مَرْمِيٌّون  في العالم، مقذوف بنا الى هذا العالم بدون إرادتنا.
أذ وعِيّنا لنجد أنفسنا في العالم بغير إرادتنا، وانزلقنا إلى هذا العالم دون أن يؤخذ رأينا في ميلادنا على الأقل ..فهو حال من الارتماء ،و أي أرتماء ؟!
لنرجع الى الفيلم باحثين عن المادة الأساسية التي عزف الفيلم على أوتارها !!. إلا و هي الهرمنيوطيقيا ، فكان عزفه فريداً و بارعاً ، أذ تراقص الفيلم مع فن التأويل رقصاً خفيفاً تارةً و ثقيلاً تارة آخرى و أهتزت الهرمنيوطيقيا لهذا طرباً .
قدم لنا الفيلم اشكالية( عبر شخصيتين هما الرئيس الامريكي و تشانس البستاني ) .انها إشكالية تعادل أشكالية فهم الوثائق و النصوص التاريخية المنحدرة إلينا من التراث!!.
فمن خلال كوميدية الممثل البارع “بيتر سيليرس” أعلن الفيلم و بشكل كوميدي محنةَ سوء فهم النص. و كلنا نعلم كم عانت البشرية من كوارث سوء فهم النصوص و كثرة التآويلُ لها. فكنٌا عرضة لسوء الفهم أكثر من كوننا نفهم بطريقة صحيحة

قبل ما افصح عن أسرار الفيلم في استخدامه للهرمنوطيقيا ،لا بد من وقفة تاريخية مبسطة لفهم هذا المطلح ، بعيداً عن النصوص الفلسفية الثقيلة المملة و بعيدا عن الكلمات والجمل الفلسفية التي تؤدي بِنَا الى التوهان ، أقول ببساطة أن الهرمنيوطيقيا أرتبطت كَفن للتأويل باللاهوت المسيحي والكتاب المقدس ،و هذا الأرتباط يعود إلى بداية إعادة كتابة الإنجيل من قبل “متي” كنص سلطوي معتمد ووثيقة مقدسة و الذي اعاد كتابة أنجيل “مرقص”ليجعله متلائما مع بناءاته اللاهوتية الخاصة به.
مع كثرة التآويل أصبحت الأناجيل الأربعة عبارة عن تفسيرات مختلفة لحياة وآلام المسيح .بعد ذلك تطورت الهرمنيوطيقيا و أثقلت كاهلها بمسؤوليات أخرى تضاف الى مسؤولية القراءة و التفسير و هي مسؤولية فهم النص. و بعد ما كانت مهمتها في البداية مقتصرة على تفسير النصوص الدينية،أصبحت بعد ذلك تهتم أيضا بالنصوص الدنيوية ،ثم أصبحت مبحثاً فلسفياً قائماً بذاته منذ عهد الفيلسوف شلايرماخر.
و أروع ما قاله شلايرماخر هو عبارة “ان سوء فهم خطاب معيّن هو الذي يولد الحاجة الى الفهم”، و صرح شلايرماخر انه “من اجل ان نفهم قصد نص ما ،علينا أن نفهم الحالة النفسية لواضع النص أثناء وقت كتابته ، والظروف التاريخية التي كُتِب فيها النص”.
بعد ذلك غير هايدغر مسار الهرمنيوطيقيا من مسار كيف نفهم الى مسار آخر ليكون السؤال كيف نوجد؟هكذا اصبحت عملية الفهم مرتبطة مباشرة بوجود الانسان، أي “أن الفهم ليس شيئا نمتلكه بل هو شيء نكونه”،ليصبح الفهم شكل من أشكال الوجود في العالم (Dasein).

كان واضحا من المشاهد الاولى للفيلم انه يميل بأتجاه الهرمنيوطيقا و التي تعني التأويل لغةً واصطلاحا..
في اللغة تأويل الكلام يعني تفسيره اما كمصطلح فهي تعني إعطاء معنى لحدث أو لقول أو لنص لا يبدو فيه المعنى واضحاً.

طبعا هناك فرق بين التأويل( و هو ما اعتمده الفيلم ) والتفسير، فالتأويل هو نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل، لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ،ومعنى هذا أن المراد هو تأويل حمل اللفظ على المعنى المجازي او الاستعاري .أما التفسير فهو قصر اللفظ على معناه الحقيقي.

اما لعبة اللغة التي أستخدمها الفيلم فأنها جائت من التشبيه الذي اطلقه فيتغنشتاين، فهو اول فيلسوف يعتبر اللغة كلعبة ، أي أنها تفاعُل يشمل اتفاقًا بين طرفين على مجموعة من القواعد. وتتغير القواعد هذه بتغيُّر الأطراف المشاركة .
فقواعد اللغة تشبه قواعد اللعبة. هذه القواعد قد ضاعت تماما في الفيلم . فكانا الاثنان ( الرئيس الامريكي و تشانس البستاني)يشبهان شخصين يلعبا الشطرنج . الاول كان يعلم جيدا إن الملك ما هو الا قطعة خشبية فؤق الرقعة و هو ليس بملك حقيقي . بينما اعتقد الثاني بإنه ملك حقيقي. و نحن ندرك جيدا ان في لعبة الشطرنج يجب ان يتفق الطرفين الجالسين على طرفيها ان الملك ما هو الا قطعة خشبية ، هذا الاتفاق هو من يجعل للعبة الشطرنج معنى من الاساس.

هذا الفيلم (Being There )تم انتاجه في عام 1979 و هو من بطولة العملاق بيتر سيليرس.
البطل تشانس (سيليرس) يعيش في العاصمة الامريكية و يبدو عمره قد جاوز الخمسين ،و قضى عمره من ساعة الولاده في منزل رجل ثري و ثالثهم الخادمة .تشانس هو بستاني ذلك المنزل الذي لم يخرج منه قط و كل ما يعرفه عن العالم الخارجي تلقاه عبر ادمانه لمشاهدة التلفاز خلال سنوات حياته.
يبدأ الفيلم عندما يموت مالك المنزل الكبير في العمر وتغادر الخادمة المنزل ثم يأتي المحامي ليقوم بالحجز على المنزل ليضطر تشانس مغادرته لأول مرة في حياته ليواجه العالم كواقع و ليس من خلال شاشة التلفاز.

و بينما كان تشانس واقف منهمكًا في مشاهدة أحد شاشات التلفزيون كما اعتاد دومًا في واحدة من منافذ البيع الكائنة في أحد شوارع المدينة لتأتي سيارة وتصدمه صدمة خفيفة في قدمِه بدونِ قصد، وتخرج صاحبة السيارة -التي هي زوجة لأحد كبار رجال الأعمال في اميركا لتدعوه لقصرها حتى يفحصه طبيب العائلة كنوعٍ من تقديمِ الاعتذار، وتبدأ في التعرف عليه في السيارة، فتسأله عن اسمه، فيجيب (Chance the gardener) الذي كان يقصد به (تشانس البستاني)، وهذا كناية عن عمله.. لكن هي لم تفهم ذلك فاعتقدت أن هذا هو اسمه بالفعل. لتبدا الالعاب اللغوية.
بعد أن قام طبيب العائلة بفحص تشانس، طلب منه البقاء في القصر لبضعة أيام حتى يبقى تحت رعاية الطبيب إلى حين اكتمال شفائه.
تبدأ الهرمنيوطيقيا بالظهور عندما يأتي الرئيس الأميركي الى القصر حتى يُقابل صديقَه الذي هو أحد اكبر رجال الاقتصاد في البلاد -وهو زوج السيدة التي قامت بصدم تشانس- ليتناقش معه بخصوص الوضع الاقتصادي المتردّي في البلاد، ويقدّم له الزوجُ تشانس على أنه صديقه الذي هو بالطبع رجل أعمال مثله.
في أثناء الحديث يسأل الرئيس تشانس عن رأيه بخصوص الوضع الاقتصادي، فيجيب تشانس بالشيء الوحيد الذي يعرفه عن العالم وهو رعاية الحديقة والنباتات، ويعرض له فكرة توالي فصول السنة الأربعة وأن ذلك يسبب بعض الضرر للنباتات في فصليّ الخريف والشتاء ثم تبدأ النباتات في التحسُّن مرة أخرى بقدوم فصليّ الربيع والصيف وأنه يجب على البستاني الجيد أن يقوم بتنظيف التربة من النباتات الميتة حتى يسمح بنمو نباتات جديدة. هذا الكلام الذي لا يمُت لموضوع المناقشة بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، ولكن على نحو مغاير تمامًا، ينبهر الرئيس بتلك الفكرة البسيطة في عرضِها والعميقة في محتواها؛ ويسقطها على الوضع الاقتصادي الآنيّ في البلاد حتى أنه في اليوم التالي وفي أثناء لقاء صحفي تلفزيوني قام بعرض تلك الفكرة أمام الشعب الأمريكي وذكر صاحب الفكرة وهو (تشانس البستاني).
ويصبح تشانس _الذي لا يعرف ما تعنيه كلمة اقتصاد ولا حتى يعرف القراءة والكتابة_ بين ليلة وضحاها أحد أهم رجال الساسة في البلاد ومن الشخصيات المُقرّبة من الرئيس، لتنهال عليه عروض للقاءات صحفية وتلفازية ليعرض فكرته تلك ويصبح من أشهر رجال المجتمع.
حتى نشهد كيف استخدم الفيلم الهرمنيوطيقيا ،فلا بد ان نذكر الفيلسوف الألماني هانز جورج جادامير الذي يعتبر اول مؤسس للمدرسة التأويلية المختصة بشكل وثيق بالهرمنيوطيقا، اذ يقول أنّ لعملية التأويل شقّين أساسيين، هما الشقّ الذاتي والشقّ الموضوع.
1. الشّق الذاتي

وهو الشّق الذي من خلاله تحدث عملية التأويل بناءً على الخلفيات الذاتية للنص، على سيبل المثال الحقبة التاريخية والوضع الاجتماعي والحالة الشخصية الخاصة بالمؤلف التي دفعته لإخراج ذلك النص، ونجد ذلك مُتمثّلًا في موقف الرئيس الأمريكي الذي لم يأخذ كلام تشانس بشكله البسيط لكنه ارتأى تأويله بناءً على وضع تشانس بكونه صديقًا لأحد أكبر رجال الأعمال في العالم، فمن غير المعقول الذهاب للقصد القريب الذي لا يمُت للموضوع بصلة ولكنه بالضرورة كان يقصد عملية الترميز التي تذهب للقصد البعيد المُتّصل بالموضوع، هنا يمكننا أن نرى الشق الذاتي في النظرية التأويلية لجادامير بمنتهى الوضوح.

و هنا اوجز لنا الفيلم الإضافة التي أضافها جادامير إلى مجال الهرمنيوطيقا و هي ان المواقف الذاتية والنوازع الشخصية للمتلقي هي من تصوغ فهمه للنص مهما كان هو موضوعيا لتفتح لنا الباب على مصراعيه لاغتيال واضع النص ونسف مقاصده، إذ يصبح النص لعبة المفسّر.

2. الشق الموضوعي
وهو تأويل النص من خلال موضوعه بغض النظر عن أي خلفيات أخرى؛ فلنسقط ذلك أيضًا في ذات الموقف بين الرئيس وتشانس، لو كان تشانس على سبيل المثال عامل بدالة و اجاب الرئيس أنه يقضي يوم عمله الشاق متابعا المكالمات المختلفة التي ترده ويصلها بالشخص المطلوب، لم يكن في استطاعة الرئيس أن يجد أي وسيلة لتأويل ذلك النص وتقريبه وإسقاطه على الموضوع، وربما اتّهم تشانس بأنه يسخر منه أو أنه حتى مجنون!
اما لو استخدم الرئيس الشق الذاتي و كان تفسيره غير موضوعي (موضوع النص) و حاول ان يجد سندا لكلام تشانس و لم ينتبه الى الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية و استند على موقفه الراهن من واضع النص (تشانس) كونه صديق اكبر شخصية اقتصادية محاولاً ان يجد في كلام تشانس سنداً لموقفه .
التفسير اللاموضوعي الذي وصله الرئيس الامريكي في الفيلم ذكرني بالتفسير الذي وصل اليه الكثير من المفسرين فكان هذا و برأي شخصي أحد أهم العقبات المعرفية التي تقف عائقاً أمام تحقيق النهضة والتقدم والتحرر في عالمنا العربي.
هكذا أوجز لنا الفيلم فلسفة اللغة عند الفيلسوف النمساوي لودفيج فيتجنشتاين؛ الذي أخبرنا “ أنه عندما نتواصل مع شخص فإننا نستخدم مجموعة من الأساليب التي لقّبها فيتجنشتاين بالألعاب اللغوية، وهي قدرة الإنسان على فهم النص في قصده الأساسي أو الذاتي”.
فأنا عندما أقول على سبيل المثال (This person is really talkative)ربما أقصد السخرية أو أقصد فقط المزاح أو أعني ما أقوله حقًا انه ثرثار ولذلك فإنّ عملية الفهم تلك تعتمد على مجموعة من القواعد التي أستخدمها، وتلك القواعد يجب على الآخر الإلمام بها بشكل كامل حتى يصل له داخل ذهنه المعنى الدقيق للكلام.

او اقول المَثل الذي قاله فيتجنشتاين: “موسى لم يكن موجود” والتي يمكن استخدامها لتقول أن لا شخص يشبه في صفاته الشخص المنسوب إلى اسم موسى، ويمكن أن تُفّهم أن النبي موسى لم يكن يُسمّى موسى، أو أن لم يكن هناك شخصية تاريخية اسمها موسى.و هكذا لا يمكن فهم الجمل من غير وضعها في سياق واستخدام.

قد نبهنا الفيلم الى الأستنتاج الذي وصل اليه فيتجنشتاين و هو صعوبة او أستحالة الالمام بكل القواعد التي يستخدمها صانع النص ،اذ انتقد فيتجنشتاين فكرة الماهوية اللغوية و هي أن لا يوجد ماهية واحدة ثابتة للغة أو لعمليات التواصل، ولكن ذلك يعتمد على مجموعة القواعد المستخدمة في الألعاب اللغوية.
وهذا أيضًا ما نراه متجلّيًا في الحالة المصنوعة داخل الفيلم، فتلك المكانة الكبيرة التي وصل لها تشانس كانت نتيجة لجهل الآخرين بالقواعد التي كان يتحرك تشانس في إطارها فكانت النتيجة ذهابهم لمعنى آخر لا يمُتّ لحقيقة النصّ بصلة ولا حتى يتقارب معه بأي شكل من الأشكال.اقول حتى لا يتقارب معه بأي شكل من الأشكال.

في نهاية الفيلم نجد تشانس يمشي بجوار بحيرة من الماء، ثم يشرع في التوجّه نحو الماء ويستمر في المشي حتى نجده يمشي على الماء كما لو أنها أرض تحمله بمنتهى البساطة، في مشهدٍ يُذكرنا بالقصة الإنجيلية الخاصة بالمسيح عندما مشى على الماءِ حتى ينقذ بطرس من الغرق، ثم يقوم تشانس بإنزال مظلّته في الماء ليقيس مدى العمق من تحته فيجد المياه عميقة بالفعل ومع ذلك هو يظل ثابتًا على السطح وينتهي الفيلم حينها وتظهر الجملة الختامية للفيلم وهي (Life is a state of mind) أي «الحياة هي حالة ذهنية».
من خلال المشهد الأخير، ربما قصد المُخرج إيصال فكرة تشير الى ذلك العدد الكبير من النّصوص التي ارتأى لها البشر التأويل من خلال وضعها في إطارٍ عمِيق بعيدًا عن مغزاها البسيط السطحي، إذ يظلّ تشانس واقفًا على سطح البحيرة بمنتهى البساطة بينما يوجد الكثير من العمق تحت قدميه.. ربما أراد المخرج التلميح للنصوص الدينية من خلال استحضار ذلك المشهد الإنجيلي، وربما لم يكن هذا مقصده! و لم تصلني مقاصد المخرج لعدم معرفتي بقواعد اللعبة اللغوية التي يستخدمها .

اما اذا طبقنا أساءة استخدام الهرمنيوطيقيا من قبل بعض الطارئين على رجال الدين و كيف فسروا كورونا في وقتها على انها رسالة أنذار من الله الى البشر !!.فانها سترمي نفسها من اقرب جسر الى النهر لتعلن عن موتها و تبشّر بولادة الدجلنيوطيقيا.

(Visited 37 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *