“قصة فتاة مع سِفاح القربى”

“قصة فتاة مع سِفاح القربى”

د.عادل جعفر

استشاري الطب النفسي

فتاة في بداية العقد الثالث من العمر، حضرت مع امها و هي تشتكي من التعاسة و القلق والعجز والشعور بالذّنب.

قالت أن الخوف متمكن منها حتى انها و في هذا العمر تنام مع امها و تقفل باب الغرفة ، بينما ينام الاب في غرفة أخرى مع اثنين من اولاده البالغ عددهم اكثر من سبعة ذكور.
اوضحت المريضة أنها لا تحب الاختلاط و تشعر بالخجل امام الاخرين و الذي قد يؤدي احيانا الى انها تنهار أرضاً و تسقط مغشية عليها في التجمعات النسائية مثل تجمعات الأعراس .
قالت لي ان لديها شعور دائم بالوحدة ، و يتغلب على نومها الكوابيس و الأحلام المفزعة !…
ذكرت لي على مضض ان هناك احداث لا تحب ان تتذكرها و هناك ذكريات غير سارة في حياتها…
كانت جالسة على طرف الكرسي، و جذعها مائل للأمام قليلاً، و هي ضامة قدميها وركبتيها …
كان واضحا لي انها متوترة ، و قد فسرت توترها هذا لأنها كانت مجبورة ان تتكلم معي بوجود والدتها التي كان وجودها اثناء الجلسة سبب لتدفق موجات القلق لديها و زيادة تشتت افكارها ، اذ لاحظت انها كانت تعاني كثيرا من اجل ان تجمع شتات افكارها !…

نظرت لعينيها مباشرة فوجدت عيناها قد نطقت بكلّ شيءٍ لكنهما لم تقولا لي أي شيء!.

قلت لها : توقفي عن الكلام ، انهضي و استلقي على ظهرك على سرير الفحص ، حاولي ان تأخذي نفساً عميقاً ثم احبسيه في صدرك و اخرجيه على اقل من مهلك ، كرري ذلك عدة مرات .

في نفس الوقت اعتذرت من امها ان تتركها لحالها لعدة دقائق ان وافقت على ذلك لأني بحاجة الى توجيه بعض الاسئلة التي توجه الى المريض حصرا حتى يستطيع ان يجيب عليها بأستقلالية تامة و بحرية مرنة..
وافقت الام و خرجت من العيادة و اغلقت الباب و بقت ماسكة باليدة الخارجية له و كنت اسمع تحركاتها القلقة و هي تطرق الباب بقدميها بدون وعيها!.

بعد ما ارتاحت المريضة، طلبت منها ان ترجع و تجلس على الكرسي
بادرت بالكلام و قلت:
اوضحي لي اكثر عن الاحداث التي تحبي ان تذكريها و كذلك اخبريني عن ذكرياتك الغير سارة ، اجابت بعيون حائرة و هي تحاول ان تثبت ملامح وجها كأنها لا تريد ان تفصح عما في داخلها !.

قلت للمريضة احكي لي الحلقة المفقودة؟!،
نظرت لي بتعجب!!.
كيف عرفت؟!
قلت لها : وضعية جلوسك القلقة ، عيناك اللتان كانتا تنطقان بتعب متخثّر!.
كما قلت لها :هل تعرفين ماذا في وجدت في عينيك؟
قالت :ماذا وجدت؟
قلت لها : عيناك كانتا تنطقان بكل شيء ؛ كان الحزن الذي فيهما يكفي أن يجعل العالم يضج بالنواح لو وزع على كل البـشـر الـقـاطنين فـيـه . و الغريب اني وجدت الأسى عندك يمتـزج بالغـضب والكراهية و الاشمئزاز !.
في هذا الوقت تحولت نظراتها الى مزيج من البريق واللمعان!.
قالت : انا مندهشة ! هل انت ساحر ؟
سكتت لهنيئة ثم قالت بأنكسار و الدموع تنهمر من عينيها!..
لقد تم التحرش بي سابقا!.
قلت لها : من هو؟
قالت : اخي!!.
قلت لها :خذي نفس عميق و اكملي…
قالت تحرش بي جنسيا مرتين، مرة و انا طفلة و مرة عندما بلغت ، لم استطع ان اخبر احداً ، مع مرور السنين تغيرت كلياً ، لم اعد كما كنت ، ضاقت بي الدنيا ، كم اتمنى ان اموت ، ارجوك دكتور لا تخبر امي اني اخبرتك بذلك !.
أني اشعر بالعار و بالاشمئزاز من نفسي، اعيش عملية التحرش الجنسي كل يوم كأنها حدثت لي الساعة و كل ساعة!!. وجود اخي معي في البيت يرعبني، أحاول أن اتجنب رؤيته على مدار الساعة ، لا اجلس في أي مكان موجود هو فيه.. لا اريد ان أراه . أتجنب النظر في عينيهِ
صوته يكرُبني و يُشعرني بالغثيان، و أحيانًا تنتابني نوبات غضب لا أستطيع ان أسيطر فيها على أعصابي فأضرب وجهي و أنتف شعري!.

أعاني من كوابيس مفزعة لا تنتهي ، قلق و خوف شديدين ، أفكار لا أستطيع ان أسيطر عليها ، أنا كئيبة على مدار الساعة ، الحزن أصبح رفيقي ، اليأس تمكن مني ، أجلس كل يوم أبكي لساعات ، فقدت شهيتي منذ فترة طويلة ووزني كما تراه ليس مثل بقية البنات ، أصبحت جلد و عظم ، فلا طاقة عندي وليس هناك شيء يثير اهتمامي ، اما الأفكار الانتحارية فأنها لا تفارقني!!… لكني اخشى حساب ربي.

تم تشخيص حالتها على انها تعاني من اضطراب الكرب التالي للرضح مع اكتئاب و قلق و بدأت معها بالعلاج الدوائي و جلسات العلاج الادراكي.

“ادناه مختطفات من الأفكار التي طلبت منها ان تدون لي “افكارها و مشاعرها و سلوكها” :

لماذا لا أحد يدرك حجم هذا الألم الذي يمكنه قتل الجميع وانا اصارع وحدي..

أبحث عن كلمة أخرى أقوى معنى من كلمة ” إنطفاء ” لتصِف تمامًا ما أنا أشعر به الان.

حطم روحي بهدوء و يصرخ قلبي كل يوم ولا أحد يسمعهُ… اموت يومً بعد يوم …اذا كان الانتحار الجسدي محرم فأنا القيت بروحي منذ زمن نحو الهاويه.

انا أول من يستيقظ ولا يفوتني السهر.. قلق في رأسي ووجع بقلبي.. اكرهه هذا الليل بكل مايحملهُ من تفاصيل ….. بهدوءه ..بخوفه.

كنت كلما اكون متعبه ألجأ إلى الكتابه اما الآن فالتعب وصل اصابعي … لا أستطيع فعل اي شيء حتى ذلك البكاء الذي كنت ابكيه ليل نهار.

مشكلتي هي التفاصيل،أنا لاأُجيد تجاهل التفاصيل مع اني بدأت اعاني من مشاكل في الذاكرة، كلمة واحدة في حديثٍ طويل تجعلني حزينة،ذكرى قاتلة تعبر في بالي تجعل ليلي شجيناً،التفاصيل الصغيرة التي أراها وأتذكرها وأتمعّنها تقتلني بوحشية.

(Visited 202 times, 2 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *