عندما حدثتني صديقتي كريستيل عن الشاعر سيد بهي الدين مجروح وعن شعر نساء باشتون في أفغانستان ، كانت تتحدث عن زمن غابر باحساس شديد.
قالت لي : نزهة أهديك كتاب مجروح ، لن افسد عليك متعة إكتشافه ، سأقول فقط انه كتلة من الاحاسيس الإنسانية واطرقت بعينيها الخضراوين.
خلف نظاراتها السوداء : لن تتصوري كم شدَني وحبس أنفاسي ،لم أتركه حتى وانا في حوض حمامي، قراته في ظرف يوم ولا يحدث معي هذا إلا نادرا؟
في زحمة عملي اليومي، نظرت إلى الكتاب لبرهة فالكتب كالأشخاص تتصادف معها او تتصادم معها ، وأعترف أنَ كريستيل ذات حس راقي في الأدب وطالما قضينا وقتا ممتعا في الحديث عن الكتب حول فنجان قهوة المكتب.
قبل ان ابدأ بالقرأءة بحثت عن الكاتب الافغاني السيد مجروح الذي إغتالته الظلامية في باشوار في باكستان ، وهو خريج جامعة مونبلييي بفرنسا دكتوراة في الفلسفة والادب ، تبنى قضية وطنه وسعى لتحريره من الروس ومن النظام القائم ، لكن ماشد كريستيل وشدني ليس الماضي السياسي الحافل للرجل وإنما ذلك المنعرج الجميل على مؤلفه الإنتحار وغناء الشعر الشعبي لنساء باشتون ، الذي ترجمه وقدمه اندري فيلتر والكاتب نفسه.
كان مدخل الكتاب لوحة مقتضبة وحزينة لمصرع رجل وإمراة في ساحة عامة كتب في اسفل الصفحة منقول من «ضحك العشاق» فقلت في نفسي ماذا يدس لك كاتب عندما يصدمك بهذا الكم الهائل من الحزن في اول صفحة كتابه ، هل ستفتح الصدمة شهيتك لتقرأ ما سيأتي أم انك ستلغي مشروع القراءة؟
فتحت الكتاب كمن يختلس توقفا للوقت فإذا بي اقفز بين شلالات شعرية فريدة من نوعها، جمال عفوي، نوابع من أحاسيس مختلفة، لوحات واطياف من مشاعر إنسانية كأن الكتاب ينبض ؟. لكن قبل أن اقدم لكم مقتطفات شعرية من الضروري الوقوف على الإطار والنسق الاجتماعي للمولف، نحن امام كتاب نادر أخرج للنور موروث شعري شفهي كتبته نساء الباشتون، اطلق عليه مجروح كلمة لنداي باللغة الباشتونية (لغة هند إيرانية) تعني «المختصر».
حاول الكاتب جمع أكبر عدد من هذا الموروث الشفهي الشعبي الذي أبدعته النساء في مجتمع ذكوري مغلف الذي يعتبر الحب خطيئة، ولا يتوانى عن قتل العشاق امام الملأ، الحب جريمة والنساء من يدفعن الثمن، فالمراة تزوجٌ دون موافقتها وتكره على كل الأشياء في الحياة حتى على الامومة، فينشأ الأطفال دون حب لان الذكور لا يحسنون معاملة الام، وعندما يجزُون في المعارك لا تجد في اللنداي رثاءا كما رثت خنساء العرب أخوها صخرا.
المراة الباشتونية تصرخ، تحب ،وتعشق في اللنداي ،تُحرر الانسان في داخلها تُحرر الألم ، تسخر من رجلٍ أُرغمت على الزواج منه،.
من رحم الألم نبتت أشعار النساء الباشتو نيات كالأزهار البرية ، كالجبال ، كغرس منتظم بدون وجل وبعفوية ، هو بوحٌ في مجتمع يحرًم كل مساحات التعبير الذاتي، ويضيف مجروح بان المرأة الباشتونية تظهر بوجه رائع لانها تعبر عن نفسها وعن العالم من حولها وبالأخص عن ثورتها، فهي تختار الانتحار من اجل الحب والحرية رغم المجتمع الرافض لفكرة الانتحاربحكم الدين فهي أشجع من الرجل فهي تخاطر وتلقى حتفها بشجاعة، مواضيع اللنداي لا تقتصر على الحب فقط بل أيضا جزء كبير منها يعالج قضايا الشرف والموت.
تقول احداهن:
أنا أحب وأحب ولا أخفي ذلك حتى لو إنتزعوا بالسكين كل شامات جسدي..
ضع فمك على فمي، لكن أترك لساني يحدثك عن الحب..
فمي لك إفترسه لا تخف، ليس سكرا ليذوب..
غدا الجائعون لحبي سيشبعون، لأني سأعبر القرية بوجه عار وشعر منسدل مع الريح..
خدني أولا في أحضانك وضمني، ثم أدر وجهي وقبل شاماتي الواحدة تلو الأخرى..
عشيقي يطلب قبلة بين أغصان التوت، وأنا أتسلق من غصن إلى غصن لأعطيه شفتاي..
الشاعرة الباشتونية تدعو الرجل للحب لكنها لا تجذبه بالعذوبة والحنان بل تستفز شرفه وجراته تريد منه أن يخاطر من أجلها، فهي تلعب بنار ستحرقها في النهاية إذا أكتشف أمر حبهما.
بقربك انا جميلة أهديك شفتاي وذراعاي وانت كجبان تستسلم للنوم..
إذا بحثت عن دفء أحضاني يجب أن تخاطر، وإذا كنت تخاف على رأسك قبَـــــل الغبار وليس الحب..
عد مخرًم الصدر بالرصاص، سأخيط جروحك وأعطيك شفتاي..
حبيبي إجلس قربي لبرهة ، فالحياة غروب ليلة في شتاء عابر..
مع السر احترق، وفي خفية أبكي، انا المراة الباشتونية التي لا تستطيع فضح حبها.
كنت تختبأ خلف الباب و انا أمسَد نهداي، فقابلتني..
عن طيب خاطر أعطيك شفتاي، لكن لماذا تهزُ جرًتي ، ها أنا ذي مبتلة..
أيها الربيع المقبل، أشجار الرمان أزهرت، في حديقتي سأحتفظ لعشيقي برمان نهداي..
الليل، الشرفة مظلمة والأسرًة كثيرة، رنين أساوري يا حبيبي سيرشدك لطريقي..
تعالى كن وردة في صدري ، انعشها كل صباح بضحكاتي..
ليحرمك الَرَب من كل اللذات في سفرك، لأنك تركتني أنام بجمري..
وظبت سرير صدري وعشيقي منهك يتبع طريقا طويلا للوصول إلي..
تعالى ياحبيبي لأعطيك شفتاي، هذه الليلة رايتك تموت فجننت..
أيها الديك أخَر غناءك ، ألتحق لتوي بأحضان عشيقي..
تركت لك كل مزايا شفتاي ، لا تبحث عبثا عن عقد حزامي..
إذا كنت لا تعرف كيف تحب لماذا أيقظت قلبي النائم..
سكـرتً لأنني ابتسمت لك، ستجن إذا أهديتك شفتاي..
لم تقتصر أشعار اللنداي على دعواة للحب كما يراها البعض بل عكست معاناة شعب بأكمله من ويلات الحرب لقد تعرض الباشتونيون لإبادة لا مثيل لها، فتطرق الشعر لمواضيع الدعوة للجهاد، الحنيين إلى الوطن الام، الشرف والبطولة وطغى طرح المنفي والابعاد القهري عن الوطن و الحبيب ، جرح لا ينضب حيث يذهب العشيق للحرب دون رجعة.
أيها الهواء القادم من الجبال حيث يحارب عشيقي، بأي رسالة تأتيني؟..
والريح يجيب: رسالة عشيقك البعيد، رائحة بارود المدفع وغبار الاطلال التي أسحبها معي..
العيش على أرض المنفى حطم قلبي ، يا ربي أرجعني لأحضان جبالي..
إلهي خذ بصري ، لقد ذهب عشيقي لا اريد رؤية وجوه أخري..
اصقائي ايهما أختار العزاء او المنفى جاآ إلى بيتي..
هذه مقتطفات من شعر بنبض بالحياة وحب الحرية يشبه شخصية الشاعر الكبير سيد بهي الدين مجروح ، اللذي يعتبره مترجم الكتاب وريثاً لجلال الدين الرومي وعمر الخيام وديدرو، ترك لنا نصيبا كبيرا من الادب في مؤلفين «مسافر في منتصف الليل» «وضحك العشاق».