د. عادل جعفر /استشاري الطب النفسي
قبل حوالي عاماً كاملاً قمنا بتوجيه أسئلة على عينة من الشباب المتعاطين و ذلك على شكل استبيان تم اعداده من قبلنا ، يتضمن كل الأسباب و الظروف التي تؤدي الى تعاطي المخدرات أو بعض الادوية ذات المؤثرات العقلية التي يتم تناولها دون إشراف طبي لأسباب روحانية لتحقيق سعادة مرضية و ليس لعلاج مرض نفسي ما ، كانت تتمحور الأسئلة حول الأسباب التي تقف خلف تعاطيهم الأدوية النفسية بدون إشراف طبي أو أسباب تعاطيهم للمخدرات، لقد تبين لي ان من اهم الأسباب التي تؤدي الى تعاطي المخدرات هو الشعور بالفراغ و العشوائية و فقدان الشعور بالحياة والذات..!!!
بينما كنت أسألهم تباعا و أدوّن أجوبتهم …تذكرت ما قاله أرسطو قديما ” ان الطبيعة تكره الفراغ”.
حقاً هذا الفراغ كشيطان يغوي السنابل الحمقاء ويغريها فترفع رؤوسها بصفاقة لتتراقص مع رياح العشوائية،هذه العشوائية مرض ملازم للفراغ ودليل دامغ على وجوده.
انها عشوائية التفكير والتصرف.. المصاب بها يذكرني بقول المتنبي “كريشةٍ في مهب الريح ساقطة.. لا تستقر على حال من القلقِ”،
ان العشوائية طامة كبرى يفقد فيها الانسان الشعور بالحياة والذات.. كما انها تحرمه من أن يخلق لنفسه كيانا محترم خاص به، و بدل عن ذلك يكون في حالة من التخبط.
ان الفراغ الذي اقصده هو اللاشيء، هو أن يقضي الانسان حياته دون أن يسعى إلى شيء ودون أن يحس بشيء.
حقا ان أكبر صراع يخوضه الانسان هو صراعه مع الفراغ , كان الفراغ رفيقاً له إينما حلّ و نزل , هذا الفراغ اكبر خالق للملل و اللامبالاة و اللانتماء , في كل المجتمعات يحاول البشر التغلب على وحش الفراغ عن طريق سعي محموم وراء المتعة على انواعها , ولهذا نجد في المجتمعات الغربية التي تعد فراغ شبابها العدو الاكبر انواع مختلفة و غريبة من المهرجانات البسيطة وسهلة التنظيم , كالقفز في حفر الطين , او التمرغ في الوحل , او حمل الزوجات والجري , او مسابقات أكل الشطائر و الحلوى و النقانق و مئات الامثلة , هذه الانشطة على الرغم من سخفها فعلياً و عملياً , هي مهمة جداً لضبط المجتمع و الحفاظ على عجلة مسيرته , فهي تغطي مساحة فعلية من تلك الفارغة التي تحيط به , جميع من يشارك في هذه الانشطة يدرك مدى سخفها للمراقب الخارجي , وربما لذاته أيضاً , لكنه يشارك بها بصورة لا إرادية لكي يردم الهوة التي يحملها في نفسه .,
إن تلك اللحظات التي يقضيها الإنسان في الترفيه واستخلاص عطر السعادة من شجر الحياة ليس وقتًا ضائعًا، وهنا تحضرني مقولة برتراند راسل “الوقت الذي تستمع فيه ليس وقتًا ضائعًا”.
أنا لا أقول ان تلك الفعاليات تستطيع ان تكبح جماح كل أشكال الفراغ ؛ من فراغ عقلي و نفسي و روحي و عاطفي ، لكنها في نفس الوقت تؤدي خدمة كبيرة للنفس البشرية ، المشكلة انه لا سجل لدينا لهكذا فعاليات و فعاليات آخرى مشابه تمتلك القدرة في التعامل مع الفراغ .
في هكذا اجواء لا يستطيع فيه الشباب ان يقضوا على شعورهم بالفراغ فأننا لن نجد سوى الاكتئاب و الشعور بالوحدة و انعدام التلذذ و اليأس و تعاطي المخدرات من جهة أو الهوس الجنسي , التشدد الديني أو الوهم العاطفي ( حب , كره , حقد , إلخ ) من جهة آخرى و ذلك لملء فراغ النفس .
لهذا يبقى هذا الفراغ هو العدو الأكبر لهولاء الشباب الذين سيجدون نفس الفراغ بانتظارهم بعد ان يقضوا فترة حكمهم.