د.عادل جعفر / استشاري الطب النفسي
قبل عدة أشهر و انا جالس في العيادة مع احد المرضى و من بهو الانتظار وصل الى مسامعي اصوات متقطعة… كان واضح انها اصوات لطفلة ، كان الصوت يكرر نفسه بعد فترة هدوء تستمر لعدة ثوانِ ليخرج بدون أي مقدمات ليفاجئ أُذنّي ، عموما كان الصوت حاداً لكن مختلفاً في قوته مع كل تكرار ، كان الصوت عبارة عن نُباح يشبه نُباح الكلب!
كانت تنبح مرة أو مرتين و أقصى شيء ثلاث مرات دفعة واحدة ثم تعود لهدوئها القاتل.
هذا النباح جذب انتباهي ،أذ قل تركيزي قليلاً مع المريض الجالس امامي، و هيأت نفسي لإستقبال هذه الطفلة و التي شخصتها بالسماع أليها قبل ان تدخل لي بأنها مصابة بأضطراب توريت او اضطراب عرة، بعد ما دخلت الطفلة عرفت انها في الثانية عشر من عمرها و انها عانت من هذه الاصوات منذ عامين .تحدث هذه اللزمات الصوتية اللاإرادية عدة مرات في اليوم الى الحد الذي جعلها تترك المدرسة.
عامان كاملان و هي تتنقل بين معالج روحاني الى اخر بناءا على رغبة الاهل، حاول المعالجون الروحانيين ان يخرجوا الجني اليهودي الذي ركبها و ينبح داخلها.
و لأنه عفريت و ليس جني و لانه قوي جدا و جبار لم يستطع الروحانيين ان يخرّجوه منها!
دفع الاهل الملايين خلال معركتهم ضد الجني اليهودي المزعوم!
هذا الجني اليهودي يفسّره اللاوعي الجمعي للناس الذي نعيش بينهم!!
أن الأيمان بتلبس الجن للبشر لا يستمد محتواه من أي تجربة شخصية للفرد نفسه،أي بمعنى أنه ليس إكتساباً فردياً،بل هو أيمان يتصل بالفطرة مع الولادة،و للسهولة اقول انه متصل باللاوعي الكوني و ليس باللاوعي الفردي،هذا الأساس اللاواعي لعب دور كبير في تشكيل أسطورة تلبس الجن للبشر و سيطرته على الإنسان و تمكنه من عقله،انها دراما داخلية تواجه تحدي حقيقي امام معشر الأطباء النفاسنيين و هم يحاولون تفتيتها ،و ذلك لأنها تمثل ثقافة متجذرة ( إلا و هي ثقافة اللاوعي الجمعي) و التي هي عبارة عن خبرات او معتقدات مشتركة لدى شعب ما أو شعوب او جماعات داخل شعب معين ،أذ تحدد هذه المعتقدات سلوك و تصرفات أفراد هذه المجموعة أو تلك .لقد سميتها ثقافة لأنها هي المسؤولة عن تشابه السلوك و التصرفات و الافكار و المعتقدات و القيم و الرموز و الأساطير عند مجموعة من الناس ،ببساطة انه المخزون المعرفي الأسطوري و السلوكيات الممارسة من قبل أسلافنا .
لقد تبيّن أن لكلِّ من الوعي واللاوعي الجمعيين تأثير في الآخر، فالعلاقة بينهما متداخلة و قد يستحيل أحدهما في شكل الآخر في حال توفرت لذلك ظروف و شروط معينة
لهذا علينا أن نواجه المكوّنين الواعى الجمعي واللاواعى الجمعي معا و فى آن واحد. لانه كما أسلفت انهما مرتبطان ومتفاعلان إلى أبعد الحدود. كل واحد منهما يؤثر سلبا على الآخر.
في النهاية لمن ستكون الغلبة؟ للطب النفسي أم للمكونات الجمعية التي تؤمن بخرافة تلبس الجن للبشر ؟
انها معركة مستمرة يقودها جنود الاطباء النفسانيين ضد ظواهر و اعراض تم تفسيرها ثقافيا.
أود أن أقول انه قبل أن أصبح طبيب نفسي و انا طالب في الكلية كنت أحب قراءة كتب الطب النفسي باللغة العربية . اثناء دراسة الأختصاص و بعده حاولت أن أحظى بخبرة سريرية في الطب النفسي ، حاولت و جاهدت كثيرًا أن أفهم معنى الظواهر والأعراض من الكتب الطبية، لكني لم أفهم إلا عندما عايشت و خالطت المرضى عن قرب ،اذ تمكن الفضول مني حول معرفة كل التفاصيل، هذا الفضول دفعني أن أتابع المرضى مرات عديدة و على فترات قصيرة. الطريقة التي أتبعتها عادت بالنفع لي و لمرضاي.
لهذا سأبقى مديوناً لكل مريض عالجته، أذ كان وراء كل تشخيص محتمل عشرات و مئات المرضى .
في هذا الزمن و تحت هذه الظروف الجافة فكرياً !كم عدد الذين يتحلوا بالشجاعة الكافية كي يستخدموا عقولهم؟ ، يبدو لي اننا بحاجة الى قرون لكي تتغيير العقليات السائدة في مجتمعنا (المثال : عقل اهل هذه الطفلة ). هذا لا يتم ألا بتثقيف جديد و قلب نظام التعليم 180 درجة و اعادة بناء لاوعي جمعي جديد و هذا يتطلب سنين لا حصر لها.
سأبقى باحثاً عن المعرفة بالرغم من ان بحثي هذا لا يخلو من الخوف ،هذا الخوف الذي كان يقضِ مضجع إيمانويل الذي قال “شيئان فقط يسببان الخوف لي ، السماء المليئة بالنجوم من فوقي ، و القانون الأخلاقي في داخلي”.