حسين فوزي
القوى الكبرى وبقية الأقتصادات المتقدمة لديها حسابات بعيدة المدى، فهي لا تقدم على خطوة وليدة لحظتها، عدا ما لم يكن في الحسبان وهو أمر نادر تماماً، وهي عادة لديها حسابات وخطط تكون في الأقل 25 عاماً، كما ابلغني مدير مكتب الرئيس الفرنسي جاك شيراك عام 2000، عندما كنت في قصر الرئاسة الفرنسية بدعوة من وزارة الخارجية الفرنسية، وكان بصحبتي الزميل مازن صاحب.
دول مثل الولايات المتحدة وروسيا، لها حسابات يعتقدون أنها خطة عمل لـ 50 عاماً بالأقل، وهي تشمل ما ينبغي عليه أن تكون الأوضاع الداخلية لبلديهما، وبناء عليه ما ينبغي أن يُصاغ من علاقات دولية. والأمور كما شهدنا خواتمها، تصل حد أن خطط الدول العظمى تستهدف ليس فقط تغيير موازين القوى، بل العمل على إلغاء الآخر أو الآخرين. وهذا ما شهدناه من الخطط الأميركية في تصعيد سباق التسلح حداً أنهك الدولة العظمى المقابلة، الاتحاد السوفيتي، بالتالي “إقناع” و”تطمين” زعيمه آنذاك غورباتشوف، بالتورط بخطوات غير محسوبة قادت إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي، ومحاولة تقزيم روسيا الاتحادية إلى اكبر قدر ممكن، من خلال التمردات المسلحة، و”تطاول” الجوار على حدودها مواطنيها، بجانب بيع المؤسسات السوفيتية بأرخص الأثمان بتواطؤ يلتسين ومساعديه. وما يجري مع أوكرانيا عينة مما جرى ويجري، ضمن خطط إضعاف الموقع الجيوسياسي ونفوذه في أوربا الوسطى وجوارها.
ويكفي هنا الاستشهاد باعتراف رئيس الدولة العراقية قبل الاحتلال الأميركي، الذي قال، لكن مع الأسف بعد فوات الأوان، “أن الحرب مع إيران كانت مؤامرة كبيرة، ولو كنا بهذا الوعي لما جرت الأمور بنفس المسار…”، وبالطبع فأن الحرب مع إيران أدت ليس فقط إلى تصريف اجيال من الأسلحة المتراكمة في مخازن الدول العظمى والكبرى، إنما سببت ارتفاعا في أسعار النفط يؤثر على اقتصادات أوربا واليابان والصين، وتوجه كل العوائد من حوض نفط الخليج العربي وإيران ودول أخرى، نحو التسلح والاستهلاك، بعيداً عن أية تنمية مستدامة، اللهم عدا إقامة صناعات جانبية لدعم العمل العسكري، بعيداً عن التنمية المستدامة، سواء في البنى التحتية أو الإنسان وكل ما هو مرتبط بالبنى الفوقية، من ثقافة ومعرفة وسلوك إنساني.
وما بعد الحرب العراقية الإيرانية عانى الطرفان من حاجات ملحة متعددة، لكن احتياجات العراق كانت أعمق، بفعل الفارق الكبير بين تطور البنى التحتية في البلدين، فإيران، بكل حجمها الجغرافي وتنوع مصادرها، شيد فيها الكثير زمن الشاه، واستطاعت الجمهورية الإسلامية بذكاء البناء عليه، برغم كل الجوانب الأخرى التي لم تكن ولن تكون منسجمة مع تطلعات الأجيال المعاصرة من الإيرانيين.
وهكذا عانى، ويبدو أننا في العراق سنظل نعاني، من عدم توفر الكهرباء، وعدم وصول الماء إلى الكثير من أطراف المدن والريف، من ارتفاع مستمر في السلع الضرورية، وتفاقم حالة البطالة، وهجرة الشباب، بالأخص الكفاءات العلمية، وفي السياق نفسه، صار الدولار متكبراً على المواطنين العراقيين من ذوي الدخل المحدود، وإذا ما كان “المحررون” الأميركيون قد كتبوا على ظهر دولارهم “بالله نؤمن”، فيبدو أن جمعاً ممن يتاجرون بالإسلام، ممن جاؤوا مع الدبابات الأميركية، يكثرون الحديث عن طهارة أل البيت، وهم في وجدانهم يقولون “بالدولار نتقرب إلى الله” بل والحقيقة إن البعض منهم في كل ممارساته يقول “بالدولار وحده نؤمن”، وهكذا تحول الدولار من سلعة تبادلية مقابل مواد تبني الاقتصاد العراقي وتحقق تحرره من مجموعات كبيرة من السلع المستوردة، ضمن خطط التصنيع والبناء، إلى وسيلة لزيادة ما يكتنزون من الدولارات، فيما يزداد الضغط على استقرار الاقتصاد الوطني، فاتجاه عبدة الدولار هو المضاربة به والحرص على أن يكونوا وكلاء للرأسمال الأجنبي كلما سنح ذلك، بجانب تزييف استكمال العمل في الكثير من المشاريع، حتى صار بعضها، شأن الكثير من المواد المستوردة، مجرد أوراق مكتوبة وكشوفات كاذبة.
إن أزمة الدولار الراهنة هي جزء من الدوامة ذاتها التي تورطنا بها، منذ بداية الشعارات الإقصائية والقمع البوليسي الدموي في نهاية السبعينات، والحروب التدميرية سواء مع إيران أو كل ما تلاها…
المحصلة هي أن أي بلد نامٍ، هناك مخططات جاهزة ليس لاستيعابه فقط، إنما لتحويل مساره في منزلق التدمير، ما لم يكن مطيعاً، أو لنقل ما لم يكن ذكياً كفاية بعدم إعلان عصيانه لمجموعة القوى الكبرى المتحكمة في مجريات اقتصادات العالم وسياساته وحروبه. وهذا ما جرى لمصر عبد الناصر، وما نتعرض له.
إن ما كتبه السيد إبراهيم العبادي “صورة العراق خارجياً” في “الصباح” قبل أيام بشأن تقييم وضع العراق بعد مؤتمر بغداد 2 في عمان، تناول العامل الذاتي، وهو عامل رئيس، في أحداث أي تغيير، لكن الكاتب اغفل حقيقة أن كل ما يدور من إرادات طموحة، لا يمكن لها أن تقفز خارج نطاق الحسابات الإقليمية والدولية للقوى الكبرى، تماماً كما لا يمكن لأحد الهرب من قانون الجاذبية على سطح الأرض ما لم تكن هناك قوة دافعة استثنائية، وهنا يأتي دور العامل الذاتي،الوطني، الذي عليه أن يتعرف جيداً على مفردات التجاذبات القائمة للجاذبية السياسية والاقتصادية لموازين القوى، وهي حالة تجاذبات كانت لصالح الدول النامية الطموحة في الاستقلال الاقتصادي بعد الاستقلال السياسي أيام الاتحاد السوفيتي إلى حين تولي غورباتشوف، وهي فرصة ضيعها كثر، ضمنهم العراق.
حالياً هناك ملامح فرصة جديدة، من خلال تعاظم دور الصين، والتحالف الصيني الروسي الهندي، الذي تقترب منه كثيراً إيران، برغم كل ما صدر عن مؤتمرات السعودية الأخيرة بمشاركة الصين…التي قد تكون مواقفها في مؤتمر السعودية بداية للعب دور في ترسيم العلاقات بمنطقة الخليج العربي.
التحدي الكبير هو مدى استيعاب السادة المسؤولين العراقيين لما يدور في “قانون الجاذبية السياسي الاقتصادي الكوني”، وهل هناك قدرة من الوعي في خلق حالة مرونة بحيث لا نحول التعامل مع الصين في كل ما يعجز عن تلبيته الأميركان وحلفاؤهم، إلى استفزاز صارخ…مع العلم أن الطرف المقابل من القوى الغربية هي ليست ساذجة، لكن هل يمكن “المصانعة” والتطمين، من أجل وقف سيادة الدولار المطلقة على رقابنا ومعه وكلاء رأس المال الأجنبي من مستوردي التمر الإيراني والخليجي وحتى ابره الخياطة وكل شيء، بجانب رغيف الخبر و”التمن”.
وفي هذا السياق هل يمكن معالجة طبيعة العلاقة الخاصة بين العراق وإيران وبقية دول الجوار، بشكل لا يؤدي إلى المزيد من إجراءات المصرف الاتحادي الأميركي وبقية المؤسسات الأميركية في تصعيد الضغوط علينا، نتيجة حجم التبادل مع إيران بالدولار، الذي تعده واشنطن خرقاً لعقوباتها، بالتالي فرض عقوبات غير معلنة علينا، من أبسط إبعادها المنظورة هذا الارتفاع المتصاعد في سعر الدولار، وكل ما يترتب عليه، حد احتمال مواجهة الحكومة الحالية ما واجهه السيد عادل عبد المهدي؟؟؟
الخروج من دوامة تقويض السلطة الوطنية البناءة هو ليس مجرد شعار، بل ينبغي تحويله إلى ممارسات، أولها إعلاء شأن المواطن في ضمان حريته والمساواة أمام القانون والامتيازات عدا ما تستدعيه المصلحة الوطنية وحدها وليس المحسوبيات، وقبل هذا وبعده مواصلة حملة محاربة الفساد وتصعيدها وفق القوانين العراقية منذ قانون المرحوم الفريق عبد الكريم قاسم” من أين لك هذا؟”
هل هناك فعلاً إرادة سياسية لدى سلطاتنا لتخطي دوامة المشاكل المفروضة باختراق التجاذبات الدولية لعولمة ما بعد الامبريالية؟؟ والسلطة هي هنا ليست السلطة التنفيذية الرسمية، بفرعيها رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، بل القوى الماسكة للأمور فعلاً خلفهما، بجانب الإرادة الشعبية التي ينبغي أن تكون من الوعي حد التضامن الكامل مع أية خطوات عملية لاختراق قيود جاذبية الكبار ودواماتهم المفروضة علينا؟؟؟
بنى فيصل الأول دولة العراق الحديثة في ظل حماية بريطانية، وهو أبن الشريف حسين الذين رمته في المنفى، عند إصراره على الدول العربية الكبرى، ورفضه لإبقاء فلسطين رهينة الحماية البريطانية ووعد بلفور، لم يعد فيصل يتحدث كثيراً لا عن الدولة العربية الكبرى ولا دور العراق المتميز إلا من خلال تميزه في بناء مقومات دولة عصرية…ترى هل نستلهم بعضاً من تراث العراق الحديث؟ أظن أن رئيس الجمهورية د. رشيد وزميله وصديقه المقرب المهندس السوداني وحلفاؤهما قادرون على استنباط الكثير بكل ما يمثلانه من خبرات عملية وكفاءة فكرية…ويظل التحدي هو ابتكار المنافذ لإعادة بناء العراق دولة متماسكة وليس حلوباً للنفط وعوائده لحساب الآخرين، ضمنهم الجوار، وليس بناء الوطن.
الدوامة ولطيف رشيد والسوداني واختراق قانون جاذبية الكبار
(Visited 14 times, 1 visits today)