حسين فوزي
في ظل الغضب الشعبي المستعر من فساد الملك فاروق، ليس بسبب علاقاته النسائية المستهترة فقط، إنما تجرؤه على بيع مناصب الدولة وبعض ممتلكاتها لتغذية رصيد لعبه القمار وبذخ حاشيته، لجأت جهات “موالية” لعرشه “العلي” وسيلة إلهاء و”تأديب” للجماهير الغاضبة، فكانت حرائق القاهرة قبيل ثورة 23 يوليو.
وحين فشلت السلطات العراقية الأمنية في السيطرة على الهجرة من ريف الإقطاع الظالم بحثاً عن فرص عمل وحياة فيها شيء من العصر، لجأت “الشرطة السرية” إلى مادة حارقة، أظنها كانت مسحوق الفسفور، لحرق بيوت قصب (الصرائف) المهاجرين إلى بغداد وبقية المحافظات الرئيسة، وكان هذا قبيل ثورة 14 تموز 58.
بين حرائق القاهرة وصرائف العراق وتغيير النظامين في مصر والعراق فترات زمنية متقاربة، وهي مؤشر من مؤشرات استفحال أزمة السلطة في القاهرة وبغداد والعجز عن معالجتها باللجوء إلى وسائل تدميرية متعددة.
واليوم، في ظل توجه رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني إلى تنفيذ بعض من مشروعه الإصلاحي الذي أقسم اليمين الدستوري على تنفيذه، اندلعت حرائق عديدة، أبرزها وأكثرها ما كان مستبعداً هو حرائق مطار بغداد، التي قد تكون بسبب تهالك توصيلات المبنى والإهمال، أو بسبب فعل أجرامي، فأن المسالة الواضحة، هي أن تركة الإهمال والفساد الثقيلة، تقف مترصدة السوداني، وهي عن قصد أو بسبب تهالك كل الإمدادات، سواء الكهربائية أو أنابيب المياه والمجاري وغرق المدن بزخات مطر، تضع الحكومة الحالية أمام فشل متراكم، وهو فشل يحفزه المتضررون، من أجل أن يلاحقوا الحكومة بالإلهاء، كي تخفف قبضتها عن رقابهم السمينة بالمال الحرام.
ولا بد هنا من تذكر أن رأس النظام الشمولي قبل الاحتلال الأميركي كان يردد “لن نسلم لهم العراق حجراً على حجر”، بمعنى أنه كان يريد إما البقاء على رأس السلطة أو تدمير البلاد، وهو ما حدث فعلاً سواء بإصراره على البقاء في غزو الكويت أو مواجهة التحالف الدولي عام 2003، وقبلهما محاربة إيران. وفي كل الأحوال استراتيجياً، سواء في محاربة إيران أو مواجهة تحالف تحرير الكويت أو التحالف الأميركي البريطاني لغزو العراق، فأن المعادلة كانت تعني تدمير العراق، وهو فعلاً ما حققته الشمولية، فيما كانت تتوهم أنها تبني زعامة تاريخية للعراق والأمة العربية. وهو ما كان المهيب الرئيس احمد حسن البكر متحفظاً عليه، منطلقاً من قناعة كان يرددها في ترأسه لإجتماعات مجلس الوزراء “العراقيون عانوا كثيراً وعلينا التخفيف من معاناتهم بكل الوسائل…”، ومن هذا المنطلق وخبرته العسكرية الحقيقية كان يرفض المواجهة العسكرية مع إيران، ليس بعد الثورة الإسلامية فيها، إنما حتى في وقت مبكر زمن الشاه، عندما احتلت قواته النفط خانه، فكان قراره ما لم تنسحب إيران من خلال القنوات الدبلوماسية فاللجوء للأمم المتحدة، لأنه يدرك موازين القوى الإستراتيجية بين البلدين.
واليوم فأن إخطبوط مافيا الفساد، المعشش في كل مفاصل الدولة المدعوم بنظام المحاصصة، الذي هو أس الفساد ومحفزه، لا يمكن أن يستسلم بسهولة لخطوات السوداني ومساعديه الشرفاء، فلديهم مفاصل مؤثرة بجانب مغريات المال لشراء ذمم مخربين لمشروع السوداني، سواء بالإلهاء الذي تطرقت له في موضوع سابق نشرته هنا، أو من خلال تضليل التحقيقات لإبعادها عن الرؤوس الكبيرة وتقديم خراف أضاحي بثمن مغرٍ مدفوع بدلاً عنها، ليستمر الفساد والنهب بصيغ مبتكرة أخرى.
إن الحرب ضد الفساد تحتاج مجموعة من الإجراءات، وفي مقدمتها حماية ظهر المحاربين من الحرائق وكل أشكال التدمير والإلهاء، وهي حماية لن تتحقق بدون عصبة من النزيهين لمساندة المشروع الوطني للبناء وإنهاء نهب وهدر المال العام والطاقات والسيادة الوطنية. إن إقالة بعض المسؤولين على أثر كشف الأحداث الراهنة لفشلهم في مهام عملهم، كما هو الحال بالنسبة لحريق المطار، ليس هو الحل الضامن لإزاحة العوائق، المفروض أن هناك خطوات مترابطة في هذه المسيرة المباركة.
إن القوانين العراقية، وضعت حلولاً عديدة، فعلي سبيل المثال، في الكمارك، كانت هناك مكافآت لمن يكشف عن المتهربين، كذلك هناك بنود في قانون الضرائب العامة تشجع الموظفين والمواطنين على كشف التهرب الضريبي، وليس دفع الرشاوى للتهرب من الضريبة، وهناك بنود ينبغي تنشيطها بشأن العفو عمن يتطوع بإرادته في الكشف عن مخالفاته وتسليم ما هو حق للدولة…وهناك خطوات أخرى ينبغي ابتكارها. لست ممن يدعون لأية أجراءات بغير القانون العادل المدني ضد اللصوص ورؤوس الفساد، لكني أظن من المناسب تعجيل إجراءات المساءلة وتشديد العقوبات ضد كل من “خطط وسهل ونفذ نهب أموال الشعب أو تأمر للتنازل عن حقوقه في أرضه ومياهه وسمائه”، فمثل هذه الخطوات “الانتقالية” ضرورية لـ”ترهيب” الفاسدين وقطع دابرهم وكل من تسول له نفسه التعاون معهم، أو كان طرفاً لم يتطوع في الكشف عن دوره والجرائم المرتكبة.
إن القوى المطالبة بالإصلاح على طريق التغيير مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بضرورة مراجعة موقفها والوقوف بوجه مخططات حرق البلاد لحرف مسار الإصلاح أو تدمير منفذيه، وقد يقول البعض أن ما يجري هو مخطط للتنفيس عن الأزمة الكبرى، لكن لنتذكر ما أل له مصير العراق، عندما لم نحسن تنفيذ شعار “تضامن كفاح تضامن”، فقد تمكنت القوى الفاشية من الاستيلاء على السلطة عام 1963…فمن اجل إلا تتكرر نفس الكارثة، مع الفارق بين شخصية الفريق الركن عبد الكريم قاسم والسيد السوداني، إلا أن شيئاً واحداً يجمع بينهما هو النزاهة، وتمتع السوداني بخبرات تجعله أكثر موضوعية بعيداً عن تضخم “الأنا” على الأقل لحد الآن، لمواصلة مسيرة محاولة وقف التداعي الرهيب وتحقيق انعطافة كبرى من أجل استعادة أموال العراقيين لبناء الخدمات ومستقبل أفضل في ظل ظروف بيئية قاتمة وعولمة تخنق الكثير من فرص التنمية وإبقاء بلادنا وكل البلدان مورد مواد خام ومستهلكة لما يلقيه لنا العالم المتقدم، بجانب نهب العقول المتقدمة من حملة الشهادات العليا التي نبنيها.
مطار بغداد بين حرائق القاهرة و”الصرائف” / حسين فوزي
(Visited 8 times, 1 visits today)