حسين فوزي
في علم الفيزياء تعجيل الجاذبية واحد، سواء أكنت تلقي بطن حديد من فوق جبل أو ريشة، فقانون الجاذبية يمارس الفعل نفسه على الاثنين، لكن حين تلقي حجر من علي يسقط، لكن حين تلقي ريشة فأن “الرياح” قد “تسوقها” باتجاهات لم تخطر على بال ملقيها.
وهذا حال الفرق بين التنظير وبين إدارة الدولة شأن تعامل قانون الجاذبية مع الحجر والريشة، والأصل أن نصف علاج مرضنا هو تشخيص الحالة، وهو تشخيص ما عاد اثنان يختلفان بشأنه، ولست هنا لتكرار تفاصيل الحالة، فحتى تلاميذ المتوسطة باتوا يكررونه، بل حتى الأطراف المسؤولة عن “مرضنا” المزمن تجتره يومياً، وتدعوا لمعالجته!؟
القضية الكبرى هي الأسبقيات، وحين يتسرب الماء إلى السفينة، فالشيء الأول المطلوب هو وقف التسرب لوقف غرقها قبل العمل على تفريغ المياه منها، وإلا فأن جهد تفريغ المياه لن يوقف غرق السفينة.
دولة الجمهورية الخامسة بعد خلع النظام الشمولي يغرقها الفساد وعدم الكفاءة ووكلاء الرأسمال الأجنبي ودول الجوار، لذلك فأن الخطوة الأولى هي وقف هؤلاء عند حدهم، من خلال سيادة القانون والدستور، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ورد في مصادر متعددة أن لجنة برلمانية دعت مرات عديدة إلى عدد من الإجراءات، ضمنها قضية مليارات أمانات الكمارك، في تدارس وضعها “بمعزل عن دائرة الرقابة المالية”، وهو طلب من أغرب الغرائب أن يصدر عن نواب للشعب ويوافق عليه وزير المالية، الذي يفترض انه اشد المتمسكين بدور الرقابة المالية. فمن سياقات الدولة، حتى زمن الشمولية، أن كل شيء يخضع للرقابة المالية، عدا عطايا “القائد الضرورة”. فكيف أجاز نواب لأنفسهم المطالبة بأي إجراء، صغر أم كبر، بدون رقابة مالية…فهي السلطة المستقلة المخولة برصد أية مخالفة، مالية أو إدارية في شؤون الدولة، وهي من المستلزمات الضرورية لسلامة معاملات الدولة.
إن رئيسي الدولة د. لطيف رشيد والمهندس محمد شياع السوداني قدما وعوداً بشأن معالجة الأزمة المستفحلة التي زادت العراقيين فقراً والفاسدين غنى بمليارات الدولارات وليس الدنانير، وهذا الوعد مقدس أدى رئيس الدولة اليمين الدستوري الذي يتضمن ما وعد به، كذلك الحال بالنسبة للسوداني من خلال كل تصريحاته، في ظل أجواء الكل ينظر فيها عما يجب على رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء الأقدام عليه.
وفي مجال الأسبقيات ينبغي أولاً وقبل كل شيء العمل على أقصى تفعيل لدائرة الرقابة المالية بكل خبرات ملاكها، بل ويستحسن الاستعانة ببعض ملاكها السابق حتى من المتقاعدين قبل اللجوء إلى شركات الخبرة “العالمية”، من أجل تعزيز قبضة الرقابة المالية القانونية لأي نشاط في الدولة، أقصد السلطات الرسمية، بجانب رصد العلاقة الخاصة بين القطاعات العامة والقطاع الخاص ودول الجوار.
إن سلطات الرقابة المالية زمن النظام الشمولي لم يسلم من تسجيلها ملاحظات “خطيرة” على شخصيتين رئيستين في الدولة، طارق عزيز وطه ياسين رمضان، رغم كل قوتهما، وهي قادرة على اطلاع مجلس الوزراء على كل المخالفات القادمة.
من ناحية أخرى تعددت جهات الرقابة المالية، فهناك هيئة الرقابة المالية والنزاهة وتشكيلات أخرى، لذلك بات من المطلوب جمعها في نشاط متبادل محكم للمعلومات ومتابعتها، فهذا من ضمانات “الأجتثاث” المتصاعد للفساد. بجانب تسريع حسم القضاء المدني لملفات الفساد المتراكمة واسترجاع المال العام، سواء داخل البلاد أو خارجها.
وبالطبع فأن مثل هذه الخطوة تستدعي مراجعة المفاصل الرئيسة في أجهزة الرقابة المالية وبقية إدارات الدولة، فمن المطلوب بإلحاح تنصيب موظفين على أساس الخبرة العلمية (الشهادة بالاختصاص) والخبرة المهنية والنزاهة التي يمليها الانتماء للوطن واحترام مال الشعب والخوف من الله والضمير الحي…وليس الانتماء الحزبي أو الشهادة المزورة أو القرابة للمسؤولين وموالاتهم.
الرئيس لطيف رشيد يعرف بحكم خبرته الطويلة أن سدود المياه كذلك منع الفساد والفشل لا تبنيها المحسوبية بل الكفاءة والهمة العالية، والمهندس السوداني له تجربة في تطهير جزء كبير من وزارة العمل في إقصاء المحسوبية والحزبية و”الجواري”، وهذا يعني أنهما يمتلكان خبرة لا يستهان بها في سبل وقف “التداعي” (تسرب المياه التي تغرق السفينة) أولاً.
إن التوافق الكردستاني والإطار التنسيقي جاءا بشخصيتين يمكن لهما أن يسجلا منعطفاً في مسار الجمهورية الخامسة، إن تخطيا سندهما إلى سند أكبر هو جموع العراقيين، لأنهما باتا معنيين بالجميع وليس بالأطراف التي جاءت بهما وحدها، وهذا يعني إشراك كل من تنطبق عليه المواصفات من القوى المدنية الديمقراطية والتشرينيين في مسيرة وقف التداعي التي يتصديان لها.
وفي هذا السياق بات من المطلوب تسريع تشريع قانون رئاسة الجمهورية، فليس من المعقول أن يظل رئيس الدولة مجرد دامغ لما يصدر عن السلطة التشريعية فقط، حيث ينص الوضع الحالي على أن أي تشريع يعتبر مصادق عليه وينشر في الجريدة الرسمية قانوناً بعد مضي 15 يوماً من تسلم الرئاسة له، حتى إن لم يصادق الرئيس عليه. فللرئيس حقوق نص عليها الدستور في حراسة الدستور وسيادة البلاد ووحدتها، وهذا لن يتحقق بدون أن يكون لرئيس الدولة حق رد أي تشريع يراه مخالف للدستور أو يعتوره خلل ما بشأن ضمانات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن الحديث سهل لكن ريشة الآراء السديدة قد تلعب بها الرياح والأهواء فلا تصل أرض الواقع، وهذان الرجلان أمام محنة مقارعة الفاسدين والنفوذ الأجنبي وعدم الكفاءة وهما الآن بحاجة ملحة إلى جمع الأخيار المساندين لمشروع وقف الفساد وملاحقته وبناء الدولة على أساس الكفاءة والإخلاص والتجرد قبل ضياع الفرصة الأخيرة لموارد الاقتصاد الريعي.
وقف التداعي أولاً / حسين فوزي
(Visited 15 times, 1 visits today)