تحولات النظام الدولي والموقف العربي
أ.د عبد الستار الجميلي
يشهد النظام الدولي مع بداية الألفية الثالثة تحولا إستراتيجيا في طبيعة الصراع الدولي، الذي غلب عليه لفترة طويلة الطابع الأيديولوجي حتى بعد إنتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي.. لكن ثمة متغيرات فرضت تحولاً تدريجياًفي مفاهيم الصراع العالمي.. في مقدمة ذلك: الزيادة غير المسبوقة في عدد السكان، وظهور الجماعات المسلحة من غير الدول.. والشركات المعولمة العابرة للحدود.. وتعميم تقنيات السلاح.. وتجذر منطق وروح الهيمنة على النظام الدولي رغم التغير في السياق التاريخي ومعادلات القوة.
الزيادة في عدد السكان وما أفرزنه من زيادة في الحاجات المادية والمعنوية وإختلاف في إشكالية الندرة في الموارد، فرضت صراعا جديدا على الموارد والثروات، يختلف عن نظرية مالتوس للسكان التي تنبأت بأن الصراع حول الندرة سيدور حول عدم التناسب في الزيادة بين السكان والموارد، حيث يزداد السكان بمتوالية هندسية(٢، ٤، ٨…الخ) مقابل متوالية عددية في زيادة الموارد(1، 2، 3…والخ).. لكن الصراع على الندرة أخذ بعدا جيو سياسيا في محاولة السيطرة على المناطق الجيو سياسية الغنية بالموارد والثروات من أجل ضمان إشباع الحاجات المتزايدة للسكان، ومن جهة أخرى ضمان الهيمنة والتحكم في سلاسلوأسواق التوريد للشركات الرأسمالية المعولمة، وبالتالي بات الصراع على ندرة الموارد والثروات ليس في مواجهة الزيادة الكثيفة في السكان وفق رؤية مالتوس، ولكن على التحكم في المحيط الجيو سياسي لهذه الموارد والثروات وبالتالي التحكم في سلاسل توريدها وأسواقها.
وحتى يمكن التحكم بهذه المحيطات الجيو سياسية، لابد أن يفرض قانون القوة نفسه، ومعايير القوة لم تعد خاضعة لمفهوم القوة الشاملة التقليدي، فقد أضيفت عناصر مستحدثة، في مقدمتها: المقدرة على إشباع الحاجات المتزايدة للسكان في دول مراكز القوة العالمية الحالية من جهة، ومن جهة أخرى التحكم بمنابع وفضاءات الموارد والثروات والأسواق وسلاسل توريدها وتوزيعها على “المجالات الحيوية“ لهذه القوى العالمية، بالمفهوم النازي للمجال الحيوي الذي جرى إحيائه ورد الإعتبار له سلوكا وممارسة، وان لم يعلن عنه.
لكن هذا التطور الجيو سياسي، رافقه تطور آخر بتعميم تقنية السلاح الذي أصبح في متناول الجميع، ما ساعد على ظهور فاعل جديد من غير الدول، ممثلا بالجماعات المسلحة، الإرهابية أو غيرها من تلك التي تصف نفسها بأوصاف أخرى، التي فرضت معادلات قوة جديدة، ومعطىً مستحدثاً للإستثمار من قبل أطراف الصراع الدولي لزيادة مفاعيل القوة، بعيداً عن قواعد وأخلاقيات القانون الدولي المعلنة.. حيث جرى ويجري توظيف هذه الجماعات كورقة دولية وإقليمية وايديولوجية يتم تحريكها حسب مقتضيات الزمان والمكان والمصالح المتشابكة، وتحت مختلف الغطاءات والتبريرات للترهيب والتوحش والتمكين والتمدد والهيمنة.
هذا الواقع الصراعي المركب، أحدث تحولا إستراتيجيا في مفهوم الصراع، من صراع أيديولوجي إلى صراع جيو سياسي على الموارد والثروات، التي أصبحت تحتلّ حيّزا متقدماً بين معايير القوة الشاملة المستحدثة، لإشباع الحاجات من جهة وديمومة الهيمنة من جهة أخرى.
وقد كشفت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عن هذا المنحى الجديد في الصراعات الدولية، حيث أضافت إلى جانب كشفها عن هذا التحول في الصراعات الدولية، كشفت عن صلابة الرؤية الواقعية المتجهمة للعلاقات الدولية أمام مثاليات المدخل القانوني والحقوقي في هذه العلاقات، وهشاشة شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان الغربية، كما كشفت عن قواعد اللعبة الصفرية للصراعات الجيوسياسية التي تحاول فرضهاالقوى التي تصر على المركزية الغربية والأحادية الأمريكية.
ويُشكل الوطن العربي واحدة من أهم المناطق الجيو سياسية، مواردا وثروات وأسواق وقنوات ومضائق وخطوط إتصال ومواصلات بحرية وجوية وبرية، وثروة بشرية هائلة بعقول منتجة رغم كلّ أنواع الكوابح الخارجية والداخلية.. وقبل ذلك ثروته الحضارية والروحية حيث شهد الوطن العربي ولادة البشرية الأولى ومبتدأ أسئلتها الفلسفية التكوينية والوجودية الصعبة، ومهبط الأديان السماوية جميعا. فعلى سبيل المثال يمتلك الوطن العربي نسبا عالية من الموارد والثروات في العالم: أكثر من ٥٥٪ من إحتياطي الثروة النفطية وأكثر من ٢٧٪ من إحتياطي الغاز، إلى جانب النسب العالية من المعادنالإستراتيجية الأخرى والثروات الزراعية والحيوانية، والإمساك بمفاتيح قنوات ومضائق وطرق الربط البري والبحري والجوي بين قارات العالم جميعا. ما جعل ويجعل الوطن العربي هدفا مستمرا للغزو والعدوان وميدانا للصراعات الكبرى بين القوى التي تحاول الهيمنة على هيكل النظام الدولي وموازين القوى فيه، ومبعث عقد تاريخية وجغرافية وديموغرافية في سيكولوجيةبعض القوى الدولية والاقليمية، وصراع الخصوصيات المتخيلة، بين الإنتماءات الفرعية أو الهامشية والهوية العربية الغالبة.
في مقابل هذه الميزة الجيوسياسية وإستراتيجية، يعيش الوطن العربي حالة من التجزئة الجغرافية، وإختلاف في الأنظمة السياسية، والصراعات الإجتماعية، وسيادة الموروث التقليدي في البنى الإقتصادية والإجتماعية والقيمية.. إنعكس ذلك كلهفي الصراعات البينية وسياسة المحاور والتحالفات الإقليمية والدولية المتضادة، وغياب الرؤية الموحدة للأمن القومي العربي والتنمية البشرية والمادية وتفعيل الروابط القومية، ليس بالنسبة للأنظمة السياسية وحدها ولكن حتى على مستوى الحركة السياسية العربية المعاصرة بكل تياراتها الفكرية المعروفة. التي كان من المفترض ان تكون طليعة النهضة العربية في إطار حق تقرير المصير القومي بتطابق الحدود السياسية للدولة مع الحدود القومية للأمة، ليس من زاوية الفكر والأيديولوجية وحسب ولكن من زاوية الضرورات الجيوسياسية والمصالح العليا، وقانون العصر القائم على واقعية متجهمة وصلبة لتعظيم المصالح والقوة التي تحميها. لكن هذه التيارات عاشت صراعا تراجيديا ومباراة صفرية فيما بينها، على ثلاثية السلطة والغنيمة والإستبداد، وتعميق أسباب ونتائج الفشل في ايجاد أرضية مشتركة للقبول المتبادل والتكامل والتفاعل الجدلي في إطار مشروع نهضوي جامع.
إزاء هذا الواقع بمعطياته وتحدياته ومخاطره الداخلية والخارجية، كيف سيتحرك الوطن العربي جيو سياسيا، في إطار هذا التحول البنيوي في الصراع العالمي من الأيديولوجي إلى الجيو سياسي، وهو زاخر بالموارد والثروات والمواقع الجيوسياسية ذات الأهمية القصوى في صراعات القوى الكبرى،التي آلت اليها نتائج ومساومات واتفاقيات الحربين العالميتين الأولى والثانية وسياقات التاريخ المتحركة، أن تكون في صدارة المشهد الدولي ومعايير القوة والفعالية والنزاعات الدولية وغير الدولية.
فكيف ستكون ادارة هذا الواقع الجيوسياسي الجديد عربياً؟
إجابة هذا السؤال المركزي، أكبر من إمكانيات أي دولة عربية مهما حاولت أو كابرت أو سوّل لها بعض من تسلط على قرارها السياسي لأسباب مختلفة؟ فقانون التناسب الإستراتيجي بين الأهداف والوسائل والإمكانيات، سيفرض نفسه إن عاجلا أو آجلا على كل دولة عربية، أمام قانون البقاء في ظل معايير العصر القائمة على قواعد ومحددات الدول الكبرى وآليات الانتاج الكبير،مساحة وسكانا وموارد بشرية ومادية ومصادر للقوة الشاملة، وقدرة على ادارة ذلك كله؟.
لذلك فإنّ الأمر يتطلب مغادرة سريعة لدائرة الصراعات البينية العبثية وسياسة المحاور والتحالفات المتضادة والرؤية الإنعزالية الضيقة وأوهام الطوائف والأعراق، التي أفضت إلى تآكل ذاتي لمصادر القوة والمقدرة العربية، وسيولة الحدود وإنكشافها أمام كثافة المشاريع العدوانية الدولية والإقليمية، وغياب الرؤية التكاملية التفاعلية لبنية الأمن القومي العربي وقاعدته المسكوت عنها في إتفاقية الدفاع العربي المشترك التي تتطلب تفعيلا عمليا ودستوريا في كلّ دولة عربية، وكذا تفعيل قاعدة التنمية والتقدم المسكوت عنها هي الأخرى المتمثلة بالسوق العربية المشتركة، والربط البري على إمتداد الوطن العربي بالطرق والسكك الحديد، وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع عبر الهوية الشخصية فقط والمشاريع الزراعية والصناعية والتجارية التكاملية، وتوحيد القوانين والأنظمة والمصطلحات والمناهج التعليمية، وتفعيل دور الروابط المهنية والثقافية والشعبية المشتركة، وفتح المجال أمام التيارات السياسية والفكرية للتفاعل والإنتاج على قاعدة شرعية القبول المتبادل، وغير ذلك من ضرورات الإرتفاع بمستوى العمل العربي ليكون بمستوى الإستجابة للتحديات الداخلية والمخاطر الخارجية، التي تفرضها الصراعات الجيو سياسية المفتوحة لكلّ الإحتمالات.
وحتى يمكن الوصول إلى ذلك كله، لابد من بلورة صيغة توحيدية للعمل العربي المشترك، وتحت أي شكل دستوري يضمن وحدة الصف والهدف معا، إمّا بتطوير بنية وميثاق الجامعة العربية وفق صيغة إتحادية بسياسات خارجية ودفاعية وأمنية ومالية وتنموية وبنى تحتية موحدة، وعملة عربية واحدة، ورئاسة ومجلس شعب إتحادي، أو الإتفاق على صيغة توحيدية أكثر ترابطاً ومركزية، بما يفتح الأفق نحو صيغة وحدوية، قوية وقادرة على مواجهة إستحقاقات ومخاطر الصراع الجيو سياسي، التي تؤشر مقدماته على تطور ميادينه الملتهبة بالنزاعات المسلحة والتوترات المستمرة، بإتجاه خيارات أكثر عنفا ودموية ورعباً، سيكون الوطن العربي أحد ميادينها الرئيسة المتوقعة.. ما يتطلب توحيدا عربيا عاجلا وفق الصيغ المقترحة أو أية صيغ أخرى يتم الإتفاق عليها عبر الحوار الجاد والمسؤول، مع ضرورة تعظيم مصادر القوة والتوحيد العربية بإختيار تحالفات موضوعية تتناسب مع حجم وطبيعة المخاطر والتحديات، وسياقات مصادر التهديد والمخاطر والأصدقاء والأعداء، التي مرّت وتمرُّ بالوطن العربي، التي كانت فيها أطراف دولية وإقليمية محددة أكبر مصادر التهديد والمخاطر والعداء، خصوصاً أمريكا والكيان الصهيوني والدول الإقليمية المحيطة بالوطن العربي من الشمال والشرق والغرب، فيما كانت روسيا والصين ومعها حركات التحرر الوطني العالمية وكثير من دول العالم الثالث أصدقاء حقيقيين للعرب وداعمين لقضاياهم في كلّ المراحل والصعاب.