———–
العراق.. سقوف مطالب عالية ونفاد صبر قتلت الهاشميين
—————————————-
حسين فوزي
إن صحت وصية معاوية لابنه يزيد في سوس الدولة الأموية، فالقول المنسوب له بشأن أهل العراق “في أن يستبدل أميرها حتى كل يوم فهو الأنسب في التعامل مع العراقيين”…
وعند قبول العراق في عصبة الأمم عام 1932 ليصبح دولة مستقلة، عبر فيصل الأول عن هواجس عميقة في رسالته إلى مجلس الوزراء، فأشار إلى أنه ” لا يرى شعباً موحداً، إنما طوائف وعشائر متفرقة”، وكم كان مصيباً في تأكيده لحاجة البلاد إلى التصنيع وتطوير الزراعة، وقد لا يكون فيصل الأول عالماً اقتصاديا لكنه وعى أن الإنتاج هو الوسيلة ًلتجاوز العشائرية والطائفية، تماماً كما كان انتقال أوربا من تجارة الإقطاع الزراعي والحرفي والتجارة البرجوازية الأولى (الماركنتايل) إلى الإنتاج الصناعي الأوسع الطريق لظهور مفاهيم الأمة والشعب الواحد وليس الإقطاعية المنغلقة على نفسها.
وفي سياق التوجه العام لبناء الدولة العراقية، كان محسن باشا السعدون ضحية محاولته الموائمة بين الطموح الشعبي غير المدرك لطبيعة موازين القوى في الاستقلال وبين قوة سلطة الاحتلال البريطاني القائمة على الأرض، فكانت النتيجة انتحاره ووصيته المشهورة التي قال فيها “الشعب يريد والانكليز لا يريدون”…وهي المعادلة التي طالما كان سياسيو العراق والجماهير ضحية عدم الوعي بالبحث عن محصلة موضوعية لتجاذبهما.
وموضوعياً، وبغض النظر عن كل ما يقال عن وطنية منفذي 14 تموز 1958، فأن الاستقراء الموضوعي يؤشر أن أطرافاً إقليمية وجدت في العرش الهاشمي العراقي الأردني، وملامح قبول سوريا للأمير عبد الإله ملكاً عليها، وهو الوريث الشرعي لعرش نجد والحجاز، تهديداً كبيراً لسلطة آل سعود، بجانب طروحات نوري باشا السعيد عن “التحاق” الكويت بالعرش الهاشمي، بجانب مشروع الأراضي غير المستثمرة من شركات النفط الذي سعى العرش الهاشمي لتنفيذه، وهو ما صار فيما بعد بالقانون رقم 80 الذي أصدره الفريق الركن عبد الكريم قاسم عام 1961. في ظل طموح تورث عبد الناصر لذات طموح محمد علي باشا في حكم البلاد العربية وكل ما تصله جيوش مصر باسم القومية العربية ووحدتها، التي قادها حكم محمد علي باشا إلى السودان وسورية وتطلع إلى مياه الخليج العربي كما كان تطلع نابليون حين وقف على ساحل قطر متأملاً العبور منه إلى الهند.
سقط عبد الكريم قاسم في مؤامرة إقليمية دولية من ابرز إطرافها إيران في تحريك ملا مصطفى، والسعوديين والكويتيين من خلف عبد الناصر في دعم البعثيين والقوميين، والشيوعيين وبقية القوى اليسارية والديمقراطية من خلال استخفاف سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي بقاسم، كذلك كان موقف كامل الجادرجي ومحمد مهدي الجواهري. فكانت مذبحة خسر فيها كل العراقيين، بالأخص الشيعة والكرد والقوى المدنية، ضمنها بعد حين البعثيون الذين نفذوا مخطط الانقلاب ليتم الانقلاب عليهم، بعد تنفيذ التصفيات الدموية المطلوبة في الحرب الباردة لمنع توسع رقعة النفوذ السوفيتي إلى حوض النفط في الجزيرة والخليج العربيين.
وجه آخر من الملامح ذاتها
—————–
حين بدأت صولة الفرسان في البصرة بقيادة السيد نوري المالكي من اجل استعادة دولة القانون، تنفس كثر من السياسيين المدنيين بإمكانية تولي رجل دولة صاعد لشؤون العراق، لكن السيد المالكي في ولايته الثانية، وهو مغرق بالعمل من أجل أهدافه بجانب تراخي قبضته بسبب كثرة الأتباع المصفقين لا الناصحين، فكانت الحاشية من الأقرباء ومتنفذين في حزب الدعوة يحصدون الامتيازات الشخصية، ولأن المالكي يقود الحزب الإسلامي الأكثر تنوراً وثقافة وقدرة على استقراء المنطقة والسياسة الدولية، لم يرق الموقف للسعوديين والعديد من الأطراف الأخرى، فكانت انتفاضة 2011 التي كان من شعاراتها “كذاب…كذاب المالكي” وهو اقتباس مما كان يقوله الملك عبد الله عن السيد المالكي، برغم أن الانتفاضة كانت لها مطالب مشروعة، لكنها وجهت باتجاه أخر تماماً مثلما كانت “وثبة” كانون 1948، التي رفضت معاهدة بورتسموث باسم سيادة واستقلال العراق، فيما كانت هي من ناحية موضوعية دعم لهما على حساب السعودية وإيران وحتى تركيا، في جعل العراق قوة إقليمية مسنودة من بقايا الإمبراطورية البريطانية، وسعي سمو الأمير عبد الإله إلى إقامة نظام حكم أكثر انفتاحاً على المواطنين، منطلقاً من الوعي بأن الشيعة هم الأغلبية، لذلك جاء برئيس وزراء شيعي، وتسلم الشيعة لمراكز بالغة الحساسية بالدولة كانوا مبعدين عنها..وهو ما أثار قلق السعوديين من طموحات الأمير عبد الإله وإقامته دولة عصرية، بعد زيارته أوربا وسماعه الكثير من الأفكار في لوس انجلوس وواشنطن في أول زيارة له للولايات المتحدة. وفي السياق ذاته كان الأمير عبد الإله ونوري السعيد قد وجدا في صيغة حلف بغداد تحييد لـ”مطامع” إيران الشاهنشاهية وتركيا الأتاتوركية في العراق، كونه كان تابعاً للسلطان العثماني، فيما يرى الإيرانيون أنه مرقد أئمتهم ولهم الحق في الوصول لها، ناهيك عن أن عاصمتهم كانت في إطراف بغداد.
كان في وسع السيد حيدر العبادي تحقيق المزيد من الإصلاحات لو امتلك قدرات المالكي على الحزم واتخاذ القرار، لكن تردده اضعف قبضته على السلطة، وكان موقفه غير الدبلوماسي ولا الواقعي من العقوبات على إيران قد افرز استبعاده عن رئاسة الوزراء كما قال الجنرال سليماني لأحد أصدقائه من السياسيين الكرد بشأن عودة العبادي لرئاسة مجلس الوزراء “فقط على جثتي”.
اليوم..توجهات لاختراق الدولة الدستورية وإقامة ولاية عائلية
——-
ركب التيار الصدري موجة السخط الشعبي الناجم عن مجموعة أسباب معروفة لنا جميعاً، في مقدمتها حرمان الأجيال الجديدة من فرص العمل وبناء مستقبل في ظل حرمان متصاعد، وهي اجيال اغلبها انقطع ارتباطها بالحركة السياسية، فكان الطرح الصدري اقرب لـ”إقناعها” تحت لافتة الطائفة والأمل في عدالة آل البيت والاشمئزاز من شريحة السياسيين القابضين على مفاصل السلطة، ومجد موقف الصدرين الراحلين من السلطة الشمولية، ورفضهما لانتهاك حرمة القيم والعبث بحياة العراقيين.
ويحاول الصدر مناجاة السخط الشعبي من خلال مواقف متشددة، مثل مقاطعة الانتخابات، ثم الرجوع عن المقاطعة، واليوم الاستقالة من البرلمان، وغدا احتمال ممارسة ضغط الشارع، في ظل احتمال تصعيد في الشارع خلال شهرين ما لم يتم التراجع عن الاستقالة، في ظل تعاطف سعودي خليجي مع توجهاته المناوئة لإيران ورفض نفوذها، وهو موقف تستفيد منه واشنطن وحلفاؤها، بغض النظر عن طبيعة موقف الصدر من الاحتلال الأميركي ومعاودته رفع شعار عبد الناصر “لا شرقية ..لا غربية”.
السياسيون القادرون على مواجهة العاصفة المتجمعة والمخططات الشعبوية قلائل، وهنا يظل رجل صولة الفرسان ودولة القانون مرشحاً رئيساً، سواء بدور مباشر على سدة السلطة، أو من خلال تنصيب من يتولى التنفيذ لذات المشروع.
إن كان السيد المالكي رئيساً مقبلاً لرئاسة مجلس الوزراء وهي خطوة تزيد من حدة استفزاز السيد الصدر وتصاعد الاحتقان في الشارع، ما لم تتوفر مستلزمات السيطرة كاملة وهو غير متاح حاليا، أو من “يُنصب”، فأن المطلوب لسحب البساط من تحت إقدام الحراك الشعبوي الذي يقوده السيد الصدر لإقامة ولايته المطلقة على العراق تستدعي مجموعة من الإجراءات الفورية الآن:
1. إعلان إطار عام لسياسة الدولة في المرحلة المقبلة يحدد أهدافا آنية ومتوسطة وبعيدة المدى بلغة مبسطة ترتكز على منهج اقتصادي ينطلق من استعادة كل الصناعات الخفيفة والارتقاء بها ودعم الإنتاج الزراعي لامتصاص البطالة، وتوفير السكن الشعبي مثل مشروعي مدينة الثورة لعبد الكريم قاسم وإحياء صدام وحيفا وبقية المشاريع السكنية، بجانب دعم الزراعة ومعالجة شحه المياه، بجانب مشكلة الكهرباء والتعليم بمستواه المتدني…الخ. مع التأكيد بأن كل هذا لن يتحقق بدون سد الثقوب الكبيرة لغربال الفساد المسرب لكل موارد العراق.
2. صياغة برنامج حكومي مؤشر بتوقيتات زمنية لتنفيذ ما ورد في الإطار أعلاه.
3. الحرص على توجه لقيادة حراك دولة القانون، سواء بشخص المالكي أو من ينتدب عنه للمنصب، إلى ساحات النفوذ الصدري: مدينة الثورة، الشعلة…الخ لتوضيح البرنامج بمناسبة البدء بتنفيذ مشاريع عملية واسعة في مناطق نفوذ الصدر…القصد منه الحد من الأحتقان الشعبي وتأشير المشتركات الممكنة للتعاون على الأقل ميدانياً لتخطي الأنفصال الكامل بين الطرفين.
4. الحرص على لقاء القوى غير الإسلامية، بدءاً من جماعة الوفاق، والحزب الشيوعي، وبقية القوى المدنية واستخلاص نقاط لقاء في بيانات مشتركة، بل حتى إشراك بعض وجوهها في تنفيذ الإطار والبرنامج الحكومي…كما فعل السيد المالكي حين كلف رائد فهمي بوزارة العلوم والتكنولوجيا بجانب رئاسة لجنة المناطق المتنازع عليها. وهناك جمع من الشخصيات الأخرى المدنية التي في وسع الحكومة المقبلة توظيفها للعمل الجاد المتجرد النزيه بما يحد من نفوذ القوى الشعبوية لإقامة ولاية بلا قانون والطاعة العمياء لقيادات تتعكز على الدين والطائفة لكنها تفتقر للخبرة السياسية في إدارة الدولة، وهناك الكثير من المؤشرات على خرقها للدستور والقانون كلما اتيح لها ذلك.
(ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة وهي أن بعض القوى والأحزاب السياسية تتسم بقدرات تعبوية وإعلامية محلية وعربية ودولية، وهي منابر فكرية ودعاية وتحريك “تفتقر إلى الأدوات الكفيلة لتولي” السلطة، وعدم التخوف من طبيعة فكرها الأشتراكي وحرصها على ضمان حقوق الشرائح الأكثر فقراً، وهو الموقف المطلوب لإمتصاص الأحتقان المحتدم، عليه ينبغي الحرص على “كسبها” لصالح مشروع التغيير لإقامة دولة القانون، بحكم انسجامها مع مبادئ سيادة القانون، ورفض الاستحواذ على السلطة بذرائع إلهية ومواهب قيادية تستفرد بالحكم ولا تؤمن بالتبادل السلمي للسلطة، وهذا ينطبق على الحزب الشيوعي وعدد من الأحزاب اليسارية والوسطية وشباب المستقلين من جماعات الحراك. وهو وضع تم توظيفه بداية ما بعد 14 تموز 1958 لكن لم يتم ضبطه، وبعد 30 تموز 1968 لكن مع ضبطه “دموياً” من قبل السلطات الشمولية …ناظم كزار وفاضل البراك وعلي حسن المجيد ضمن مخطط الأستحواذ على السلطة وتصفية كل الخصوم والحلفاء ايضاً. هذه المرة ينبغي ضبط دورهم في تحرك بناء على اساس التضامن مع السلطة في عملية البناء ونقد بناء للسلبيات مع تقديم حلول تكون مقبولة بعيداً عن الشعارات الثورية الرنانة، إنما حلول تسترضي أغلبية المجتمع ولا تقود إلى مواجهات ).
5. ضرورة انتقاء شخصيات غير ملوثة بالشبهات لمساندة رئيس الوزراء مثل السيد محمد شياع السوداني، وانتقاء متحدث باسم مجلس الوزراء مثل د. سعد الحديثي الذي كان ناطقاً باسم حكومة العبادي، يسانده شخصية إعلامية نزيهة مثل الإعلامي الباحث وطالب الدكتوراه حالياً السيد عباس عبود.
6. تحويل وسائل الإعلام الموالية من لغة المديح لحزب الدعوة وحلفائه القابضين على مفاصل الدولة إلى لغة تشخيص ما هو المطلوب من القوى القابضة على سدة السلطة لتلبية طموحات الجماهير وعقلنة هذه الطروحات من خلال أوسع حركة لقاءات بالجماهير وترشيد انفعالها. وتشجيع نقابة الصحفيين وأسرتها على تبني منهج نقد بناء يؤشر السلبيات مع طرح حلول مدروسة تساند جهود جهاز السلطة على تحري حلول ناجحة للمشاكل.
7. تجنب تعيين الأقرباء من الدرجة الأولى والثانية بالأخص، كذلك عدم تعيين أي حزبي ما لم يكن مؤهلاً علميا بتخصص وله خبرة عملية في شؤون إدارة مجاله كمعيار لبناء إدارة تتسم بكفاءة عالية.
8. حسم الخلافات مع الإقليم على أساس إنهم كيان إداري في الدولة العراقية يستجيب لطموحات الكرد في إدارة شؤونهم، وليس دولة أخرى خارجة على ضوابط الدستور والقضاء والموازنة العامة، مع الحرص على تجنب المواجهة المسلحة، كما كان موقف السيد العبادي في التعامل مع الخلافات وفق صيغ قانونية رصينة. وتأكيد الاحترام الكامل لحقوق مكونات كركوك بدون قسر من المسلحين.
حفظ الله العراق،
لنعزز لحمة المجتمع العراقي بالعمل لبناء المستقبل بخطوات تحقق انفراجاً في واقعنا المشوي على صفيح ساخن وتكالب الجوار والشركات العالمية على نهبنا، في ظل طموح إخوتنا من البرزانيين الكرد في انتهاز اقرب فرصة لإعلان استقلالهم الذي تحول دون ظروف إقليمية يتطلعون لتخطيها بالأمر الواقع عند تشرذم ساحة العراق.
15 حزيران 2022
دولة الدستور والقانون هل وأدت / حسين فوزي
(Visited 60 times, 1 visits today)